هذا في حال نجحت المفاوضات، بالفعل، في إحياء الاتفاق النووي، معدّلاً أو بنسخته الموضوعة عام 2015، أمّا بخلاف ذلك، وهو ما تتكاثف المؤشّرات والتوقّعات بحصوله، فإن الجهد الأميركي سينصبّ على كيفية منْع "إسرائيل" من المبادرة إلى عمل عسكري "توريطي"، يُراد منه جرّ الولايات المتحدة إلى حرب، لا ترى فيها الأخيرة أيّ مصلحة. وأيّاً يكن ما ستؤول إليه معركة "عضّ الأصابع" الدائرة حالياً، فالأكيد أن الحليفَين، الأميركي والإسرائيلي، يواجهان تحدّياً غير سهل، متمثّلاً في اليوم التالي لفشل محادثات فيينا.
وصل مستشار الأمن القومي الأميركي، جيك سوليفان، أمس، إلى تل أبيب، في إطار زيارةٍ وُصفت بالتأسيسية لـ"وضْع النقاط على الحروف"، في ما يتعلّق بالتبايُن، إن لم يكن الخلاف، بين الولايات المتحدة و"إسرائيل"، إزاء البرنامج النووي الإيراني، وأساليب مواجهته، إذ تريد تل أبيب من واشنطن أن تكون أكثر تطرّفاً في مقاربتها، سواءً في المفاوضات غير المباشرة الدائرة حالياً في فيينا، أو عبر التلويح باستخدام الخيارات العسكرية الأميركية، ضدّ طهران، في حال امتنَع الجانب الإيراني عن "تليين" مواقفه، وهو ما تسمّيه "إسرائيل"، "مفاوضات أميركية بلا أسنان".
في المقابل، لا تجد الولايات المتحدة مصلحة، سواءً لناحية الكلفة أو الجدوى، في اللجوء إلى خيارات من هذا النوع، سيؤثّر تفعيلها على تحدّيات استراتيجية أخرى في مناطق أخرى من العالم، حتى ولو كان ثمن الامتناع عنها تموضع إيران كدولة حافّة نووية.
ذلك أن الولايات المتحدة لن تمانع، إن اضطرّت، التعايش مع هكذا وقائع، فيما هي (أي الوقائع) بالنسبة إلى "إسرائيل" بمثابة تهديد وجودي، لا يعني إمكان إنتاج قنبلة نووية فقط، بل ستطاول تداعياته كلّ مستويات الصراع القائم مع إيران، خصوصاً لناحية "التفوّق العسكري" الإسرائيلي في مواجهة طهران وحلفائها.
أمّا حلفاء الكيان العبري، وتحديداً بدول الخليج الفارسي، فسيكونون مضطرّين، والحال هذه، لمراعاة إيران ومصالحها، والامتناع عن إيذائها على أكثر من مستوى، ما يعني، في جانب منه، تعطيل الفائدة الأمنية من "اتفاقيات آبراهام".
وتأتي زيارة سوليفان لتل أبيب بعدما باءت زيارات المسؤولين الإسرائيليين - من وزير الأمن إلى رئيس الموساد، إلى عدد من مسؤولي الشُّعب العملياتية والتخطيطية في الجيش الإسرائيلي - للولايات المتحدة، بالفشل الذريع، باستثناء تصريحات استهدفت إرضاء الزائرين، ليس إلّا.
ووفقاً لتعليقات عبرية، فإن "أميركا غير مستعدّة وغير معنيّة، بأن تسمع من "إسرائيل" بخصوص الخيارات العسكرية"، وهي في الوقت نفسه "غير مستعدّة، وغير معنيّة، بأن تُسمع إيران تهديدات عسكرية".
ولعلّ ما يؤكّد ذلك الموقف هو ما تسرّب، أخيراً، في الإعلام العبري، عن امتناع واشنطن عن تلبية طلب بيني غانتس، خلال زيارته لها، بتقديم موعد تسليم "إسرائيل "طائرتَي تزوُّد بالوقود، تُمكِّنان الطائرات الحربية الإسرائيلية من الوصول إلى مسافات بعيدة لقصف أهدافٍ، في ما من شأنه، من وُجهة نظر تل أبيب، البعث بإشارات عملياتية، لا كلامية فقط، إلى طهران، حول جدّية الخيار العسكري.
لكنّ الولايات المتحدة رأت في الموافقة على ما يريده غانتس رسالة «حربية» إلى إيران، ولذا قرّرت تأجيل موعد التسليم، لتُمنى مهمّة الوزير الإسرائيلي الرئيسة بالفشل.
وفي السياق ذاته، تأتي زيارة سوليفان لتل أبيب، لحسم إشكالية رئيسة لا تزال عالقة بين الجانبَين، عنوانها «جرّ أميركا إلى حربٍ مع إيران»، عبر مفاجأتها باتّخاذ خطوة عسكرية، تستتبع تصعيداً إسرائيلياً - إيرانياً، وتجرّ، بالتبعية، الولايات المتحدة إلى المواجهة.
بالطبع، لدى الأميركيين خشية من أن تلجأ "إسرائيل" إلى خطوة من هذا النوع، وهو ما كانت تتوجّسه أيضاً إدارة الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، عشيّة الاتفاق النووي مع إيران، في عام 2015، حين استنفرت الإدارة لإفهام حليفتها أن الخيار العسكري غير وارد، وممنوع.
ومن هنا، فإن ما سيعرضه سوليفان على المسؤولين الإسرائيليين، يتركّز في اتجاهَين، وفق عددٍ من المراقبين: أوّلهما أن العمليات التكتيكية الإسرائيلية ضدّ البرنامج النووي الإيراني، لن تتسبّب في وقفه أو عرقلته، بل على العكس من ذلك ستدفع نحو التسريع به، الأمر الذي ظهر نموذج منه في أعقاب الاعتداء الأمني على "منشأة نطنز"، والذي نقل إيران من تخصيب محدود نسبياً، بنسبة 20%، إلى نسبة 60%، وأوصلها إلى امتلاك عددٍ من الكيلوغرامات من المادّة المخصّبة بهذه النسبة، و"قرّبها أكثر من القنبلة النووية".
أمّا الاتجاه الثاني، فيتعلّق بجملة تعويضات قد تُعرَض على "إسرائيل"، لقاء ما يمكن أن يتوصّل إليه المفاوضون في فيينا، من اتفاق يُقال إنه سيكون محدوداً، وسيقتصر، في حال تَحقّقه، على التزامات إيرانية بأن لا تنتج الجمهورية الإسلامية سلاحاً نووياً، على اعتبار أنّ أيّ التزام كان يُراد من خلاله الحؤول دون وصول إيران إلى "الحافّة النووية"، بات غير ذي فائدة، في ظلّ التقدّم الكبير في برنامجها النووي.
لكن ما الذي يدفع أميركا إلى الامتناع عن التلويح بالخيار العسكري ضدّ إيران أو التحضير له أو تفعيله، علماً أنها في أمسّ الحاجة إلى ورقة ضغط من هذا النوع، لدفع المفاوِض الإيراني إلى التراجع عن مواقفه "المتصلّبة"، سواءً في المفاوضات النووية نفسها، أو في ما يتعلّق بملفّات وساحات صراع أخرى في المنطقة؟
يبدو أن لدى الولايات المتحدة تقديراً ثابتاً بأن إيران لن تتراجع تحت التهديد، الذي ستكون له، والحال هذه، تأثيرات بالغة السوء، على موقف واشنطن، على اعتبار أن الأخيرة لن تعمد إلى تنفيذ تهديداتها.
وهو ما لن يقتصر على الملفّ الإيراني، بل سيمتدّ ليشمل تحدّيات أخرى تواجهها الولايات المتحدة على مستوى العالم. لكن مع ذلك، وفي ظلّ الحديث عن قُرْب إعلان فشل مفاوضات فيينا، تبدو واشنطن، ومعها تل أبيب، أمام تحدّيات غير سهلة؛ إذ سيكون على الأخيرة إثبات صدقيّة تهديداتها، فيما هي لا تملك، عملياً، الخيار العسكري الذي تلوّح به تجاه إيران.
كما سيكون على الولايات المتحدة، الحيلولة دون مبادرة "إسرائيل" إلى فعْل ابتدائي، من شأنه دحرجة الأمور إلى تصعيد كبير.
لكن في حال فشلت جهودها، وأقدمت تل أبيب، بالفعل، على خطوة من النوع المذكور، فماذا ستكون خياراتها؟ هل ستلجأ إلى امتصاص التصعيد أم تنزلق نحوه؟ وماذا إذا قرّرت طهران، هذه المرّة أيضاً، الخروج نهائياً من التزاماتها، والبدء بالتخصيب بنسبة 90%، التي تؤهّلها مباشرة لـ"إنتاج سلاح نووي"؟ الأكيد، إلى الآن، أن سوليفان سيحاول استرضاء الجانب الإسرائيلي، بطريقة أو بأخرى، فيما لن يجد الأخير حلّاً سوى الاستمرار في التمايز وإطلاق التهديدات، إلى حين إعلان فشل المفاوضات، ليُبنى على الشيء مقتضاه.
الأخبار