مذاك تعدّدت أوجه التدخّل الأميركي في الساحة اللبنانية، سواء على المساوى الاقتصادي أو السياسي أو الإعلامي، أو حتى العسكري والتسليحي، كل ذلك شكل سبباً مباشراً وأساسياً في انهيار الاقتصاد اللبناني، فضلاً عن خلق الأزمات السياسية والأمنية المتلاحقة. ما يحصل على الساحة اللبنانية من أزمة وتحولات وتغيرات خطيرة جداً، ما هي إلا نتائج للسيطرة الأمريكية على لبنان، وزرع الالغام والتعقيدات في طريق أي مبادرة تسعى للخروج من الازمة، وذلك عبر استخدام وسائل متعددة نشير إليها تباعاً.
أولاً: تغطية الفاسدين وحمايتهم
اعتمد الأميركيون سياسة الانهيار البطيء للاقتصاد اللبناني والسيطرة الناعمة عليه شيئاً فشيئاً لتطويعه من أجل حفظ أمن "اسرائيل"، دون التدخّل المباشر في بداية الأمر، فأوكلوا مهمة الاستنزاف إلى حلفائهم وعملائهم. لعب اللبنانيون التابعون دور العنصر التنفيذي للسياسة الأميركية، ضمن عمل متكامل وكارتيلات محتكرة للسلع والاستيراد، كقطاع النفط وقطاع المصارف وقطاع الأدوية، بموافقة المسؤولين السياسيين اللبنانيين، وحصر الوكالات الحصرية للاستيراد دون منافس.
عمد الأميركيون إلى التدخل المباشر لاحقاً عبر فرض الحصار الاقتصادي على لبنان. وقد ساهمت في هذا الحصار مختلف القطاعات والقيادات اللبنانية التي تدور في الفلك الأميركي، وشهدت الساحة اللبنانية في هذا السياق توظيفًا أميركيًا لقيادات سياسية واقتصادية وأمنية عديدة ذات مناصب رفيعة وحساسة.
ثانياً: السيطرة على حاكمية مصرف لبنان
دخل عامل التدخل الأميركي مجدداً في تداعيات انهيار الاقتصاد اللبناني من خلال حاكمية المصرف المركزي اللبناني بشخص رياض سلامة.
عيّن سلامة في العام 1993، وما زال يتابع مهامه حتى اليوم رغم انقضاء ولايته لأكثر من مرة، غير أن تنفيذه لسياسات مالية زادت نفعاً للطبقة السياسية الحاكمة والإدارة الأميركية معاً أبقاه في منصبه.
شرع سلامة بسياسات مالية مثيرة للشبهة منذ بداية عمله، وسار في الفلك سياسة الولايات المتحدة الأميركية في تنفيذ خططها وبرامجها ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
- اعتماد سياسة رفع الفوائد، من أجل اجتذاب أموال المودعين، ما رفع رصيد المصارف التي باتت تتحكم بتلك الأموال إلى أن وصل الأمر للسيطرة عليها تماماً، واختلاسها من أصحابها لاحقاً، ومن ثم تلميع صورة الاقتراض ووضع لبنان تحت رحمة المصارف الداخلية والخارجية.
- اعتماد الفوائد المرتفعة كعامل اقتصادي، ما دمّر قطاعات الإنتاج الأخرى كالصناعة، وإهمال قطاع الزراعة نهائياً، حتى وصل الأمر إلى ما هو عليه اليوم من غياب المؤسسات والمصانع الإنتاجية.
- عمد إلى سياسات وهندسات مالية، عادت بالربح الوافر للمصارف، وحرمان الدولة من تلك الأرباح، لا بل جاءت على حساب أموال الدولة وأموال المودعين كذلك.
- اعتماد سعر الصرف على التسعيرة الرسمية للدولار 1507 ليرات، لأموال المودعين بالدولار مقابل الارتفاع الجنوني له، ما دفعه لاحقاً إلى رفع قيمة سعر التعويض إلى 3900 ليرة، أيضاً جاء ذلك في ظلّ ارتفاع غير مسبوق للدولار ناهز 23.000 ليرة، وكانت نتيجة هذه التسعيرة أن وصل حال المودعين إلى شبه الإفلاس وسرقة أموالهم، الأمر الذي أدىّ إلى مزيد من الانهيار في الاقتصاد اللبناني.
- عمل على احتكار الدولار، ومنع توافره في السوق، ما أدّى إلى ارتفاع هائل لسعر الصرف، وانهيار قيمة الليرة اللبنانية، فضلاً عن اتباع سياسة الدولرة الشاملة لكل السلع، حتى بات الدولار يغطي على العملة الوطنية في التبادل التجاري الداخلي والخارجي.
ودائماً ما كان كلام المسؤولين الأميركيين يضيف دعماً خارجياً لرياض سلامة من العيار الثقيل، فكان حديث السفيرة الأميركية في بيروت، دوروثي شيا، يكشف حقيقة عمل سلامة معها وتنفيذ سياسة بلادها، كما أعلنت صراحة بتدخل بلادها في أمر حمايته وإبقائه في حاكمية المصرف المركزي اللبناني من خلال تصريحها بأن "الولايات المتحدة عملت بشكل وثيق مع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، ومن الخطأ شيطنة أي شخص أو مؤسّسة أو جعلهم كبش فداء للانهيار الذي هو نتيجة عقود من الفساد"، فضلاً عن كلام دايفد هيل سابقاً والذي دافع به بشكل شرس عن سلامة.
ثالثاً: التدخل الأميركي عبر سياسات مالية
تدخلت الولايات المتحدة الأميركية في لبنان، عبر سياسات مالية، اعتمدتها من أجل حصار لبنان ما فاقم من أزماته، حيث قامت بفرض خطط وآليات تستهدف العملة الوطنية والقطاعات الحيوية في الدولة.
من السياسات التي تعتمدها الإدارة الأميركية في الحصار، اقحام المؤسسات المالية الدولية وعلى رأسها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي لفرض شروط تعجيزية (رفع الدعم على المواد الأساسية، تفكيك القطاع العام، خصخصة المؤسسات الاقتصادية والصناعية، تعويم الليرة…)على الحكومة مقابل تسهيل قروض تحت عنوان مساعدات استعجالية للبنان.
كذلك، تقوم باستخدام المؤسسات المالية الدولية - كأدوات ضغط - لتقديم قروض بغرض تطوير البنية الأساسية وبناء محطات توليد الكهرباء والطرق والموانئ والمطارات بشرط قيام المؤسسات التابعة للولايات المتحدة بتنفيذ تلك المشروعات. يعني ذلك، احتكار اميركي لكل الإمكانات والموارد وعدم السماح لاي دولة او قوة إقليمية أخرى في المنطقة بتقديم العون أو الاستثمار في لبنان.
وكما هو معروف، فإن الفيتو الاميركي واضح لمنع لبنان من التوجه الى دول اخرى تدعمه وتستثمر فيه سواء روسيا أو ايران والصين وحتى بعض الدول الاوروبية، وسبق لشركة سيمنز الالمانية بالتزامن مع زيارة المستشارة أنجيلا ميركل الى بيروت في العام 2018، ان قدمت عرضا لتأمين حاجة لبنان خلال 6 اشهر بكلفة 800 مليون يورو ولكن العرض قد رفض، علما ان عروضا عديدة قدمت من إيران والصين وروسيا في هذا الاطار، وآخرها ما قدمه الوفد الروسي الذي زار لبنان مؤخرا عارضا بناء محطات كهرباء ومصفاتي نفط وإعادة إعمار مرفأ بيروت.
تفرض الولايات المتحدة على الدولة المستفيدة من القروض الدولية شروطًا صعبة لتسديد أصل القرض والفوائد في زمن الأزمات، بمعنى آخر تفرض عليها آليات وشروطًا لسداد الدين دون مراعاة للأزمات والصعوبات التي تعيشها.
إلى ذلك، هناك شرط أساسي للولايات المتحدة الأميركية في مسألة النفط اللبناني، وهو ترسيم الحدود البرية والبحرية الجنوبية مع فلسطين المحتلة وفقاً لمصلحة الكيان الصهيوني.
إن مسألة ترسيم الحدود الجنوبية لم تأتِ عن عبث سياسي أو ترف جغرافي لمنطقة قاحلة، إنما يكمن في أصل وجود النفط والغاز ضمن المياه الإقليمية اللبنانية، التي تعمل "إسرائيل" ومن خلفها أميركا جاهدة للسيطرة عليه، وهو ما يعيق عملية استخراج النفط جنوباً.
أما فيما يتعلّق بالنفط المتواجد في غير منطقة بحرية لبنانية، أو حتى على اليابسة، فهو يخضع لإملاءات الإدارة الأميركية، يواكبها خضوع العملاء والوكلاء اللبنانيين في الإدارة الرسمية، ما يمنع استفادة لبنان من موارده النفطية وتحسين الوضع الاقتصادي، ناهيك عن منعه من الانتقال إلى مصاف الدول الغنية.
رابعاً: منظمات (NGO's)
دخل التخريب الأميركي إلى الساحة اللبنانية عبر أبواب متعدّدة، منها باب منظمات المجتمع المدني أو ما تُعرف بالمنظمات غير الحكومية، التي ساهمت إلى حدّ بعيد بتأزم الوضع الاقتصادي منذ بداية حراكها متنقّلة بعناوين مختلفة، وقد جاءت هذه التحرّكات بناء على مطالب أميركية مباشرة أو عبر وكلائها، كما تمّ عرض بعض المشاهد الحيّة عن تدريب وإدارة أميركية مباشرة لإدارة بعض هذه الجمعيات.
ومن نتائج ما قامت به هذه الجمعيات على تأزيم الوضع الاقتصادي:
-خلق حالة من الفوضى في البلاد، وعلى مساحة جغرافيّة واسعة، ما أدى إلى توتر أمني وإغلاق للكثير من المؤسّسات التجارية والمحال والمصانع.
- إغلاق العديد من الطرقات الرئيسية والفرعية على امتداد الجغرافيا اللبنانية، ما زاد في خنق المواطنين في تحصيل موارد عيشهم.
- استمرارية تحرّك هذه الجمعيات التي ترفع شعارات إصلاحية سياسية واقتصادية طيلة سنوات، بينما الواقع العملي لها لا يشير إلى تنفيذ برنامج إصلاحي، إنما يظهر فيه انسجام مع بعض الشخصيات السياسية، ما يشير إلى تنسيق في الحصار الاقتصادي القائم.
-المشاركة في تخريب بعض المؤسسات الاقتصادية الخاصة والحكومية الرسمية.
خامساً: السيطرة الإعلامية
تقوم واشنطن عبر سفارتها أو جهات تابعة لها في لبنان بنسج علاقات مع شبكة واسعة من الوسائل الاعلامية المرئية والمسموعة والمكتوبة والمنصات الالكترونية المختلفة، بهدف تضييع الحقائق وتغيير الوقائع وبث الفتن والتهم هنا وهناك، بهدف تلمييع صورة واشنطن وحلفائها، وإبعاد "اسرائيل" عن صورة الاحداث والاضرار التي تصيب لبنان والمنطقة في مختلف الملفات.
وهنا نشير إلى أن كلام جيفري فيلتمان واضح في هذا المجال عندما ذكر انه دفع 500 مليون دولار لتشويه صورة المقاومة، ومن ثم ما قاله ديفيد هيل عن دفع 10 مليارات دولار لدعم "النشطاء" وجمعيات ما يسمى "المجتمع المدني" التي تصنعها اميركا او تتحالف معها للوصول الى الاهداف نفسها، ولذلك نشاهد الكثير من الكتابات والبرامج والفعاليات تصب في الخطاب الأميركي.
لا يتسع المقام لذكر كل ما قامت به واشنطن لحصار لبنان والسيطرة عليه، لكن من نافل القول إن ما تدّعيه الولايات المتحدة بالحفاظ على الدولة اللبنانية من خلال تقديم المساعدات والاهتمام بها هو محض برنامج سياسي يسير وفق المعيار السياسي الذي تنتهجه. ومن المعلوم أن الإدارة الأميركية تتدخّل بالشؤون التفصيلية في لبنان وغيره من الدول، ولذلك فإن اتباع أميركا سياسة اقتصادية، سواء بالمباشر أو عبر عملائها، تقوم على إنهاك لبنان، في مقابل تقديم المساعدة له بـ"القطارة"، وحصراً منها، هي سياسة الموت البطيء، وإحكام الخناق كي لا يفلت من يدها، لتبقى هي المهمنة من أجل مصالحها.
المصدر: موقع العهد