لم يكن الامام الراحل مجرد زعيم سياسي هدفه الوصول إلى السلطة والحكم بقدر ما كان مصلحا عالميا كبيرا، قاد مشروعا شاملا للتغيير والاصلاح، ومازال ذلك المشروع متواصلا رغم مرور أكثر من ثلاثة عقود على رحيل قائده، وكان العنوان الابرز والمثابة الاوضح لمشروع الامام الخميني الاصلاحي، هو الثورة الاسلامية.
وطبيعي جدا، ان تحليل ماهية المفردات والمفاهيم التي جاءت بها تلك الثورة، واجراء مقاربات بينها وبين مفردات ومفاهيم منظومات ثقافية وفكرية اخرى يمكن له ان يساهم في اجلاء الجانب الآخر من صورتها، والذي لم يكن واضحا بما فيه الكفاية للذين كانوا يراقبون التفاعلات من بعيد ولم تتاح لهم الفرصة للاقتراب من مسرح الاحداث، حيث أن فكر وشخصية مفجر الثورة الامام الخميني ساهم الى حد كبير في استجلاء صورة الواقع بدقة ووضوح.
فالمتابع او الباحث لا يمكن له ان يقف على حقائق الثورة الايرانية ويشخصها بدقة ما لم يتوقف عند الخطاب المتعدد الابعاد والجوانب الذي تبناه الامام الخميني منذ الانطلاقة الحقيقية لحركته الشاملة بأتجاه التغيير في عام 1963 وحتى وفاته في عام 1989، ذلك الخطاب الذي شكل ثوابت ومبادئ النظام السياسي الاسلامي في ايران، والاطار العام لمنهج محور او جبهة المقاومة.
وهذا يعني أنه لا يمكن بأي حال الفصل بين الثورة وظروف انتصارها والتحديات التي واجهتها في شتى مراحلها، وبين الامام الخميني كقائد ومرجع وصانع حدث تأريخي كبير، لم ينته ويتوقف دوره وحضوره وتأثيره حتى ما بعد رحيله.
فمجريات الامور والاحداث والوقائع التي شهدتها مرحلة ما بعد الحرب المفروضة (1980-1988) وبعد رحيل الامام الخميني، اثبتت هي الاخرى خطأ كثير من القراءات السطحية التي ذهبت الى ان مرحلة الثورة انطوت صفحاتها وبدأت مرحلة الدولة، وهذا يستدعي- بحسب تلك القراءات السطحية- حصول جملة متغيرات على صعيد الواقع الاجتماعي والثقافي والسياسي، من بينها اضمحلال وذوبان ثقافة الجهاد والحرب والاستشهاد ارتباطا بنهاية الحرب وغياب الرمز الاول، وكذلك طبيعة التحولات والمتغيرات العالمية بعناوينها ومظاهرها المختلفة التي كان لابد ان تدفع ايران الى الانفتاح اكثر فأكثر على الاخرين سواء في المحيط الاقليمي او عموم الفضاء الدولي، وهكذا مع قضايا وملفات أخرى.
ولأن الامام الراحل أرسى أسس ودعائم ومرتكزات النظام الإسلامي وفق رؤية عميقة وصائبة ودقيقة، فمن الطبيعي أن تكون ذكرى غيابه بمثابة فرصة ومناسبة للتأكيد والتشديد على ثوابت ومبادئ الثورة والدولة والنظام، وهذا ما يبدو واضحا وجليا الى حد كبير، في مختلف احداث ووقائع وتفاعلات المشهد الايراني العام، لاسيما تلك المتعلقة بترسيخ وتكريس نظام الجمهورية الاسلامية.
الى جانب ذلك، فإن شمولية وعالمية شخصية الامام الخميني، جعلته دائم التأثير والحضور في المشهد العالمي، بأبعاده السياسية والفكرية والثقافية والانسانية، وملهما للكثيرين، حتى من اتباع الديانات الاخرى غير الاسلامية، واصحاب الافكار والنظريات والاراء البعيدة عن الفكر الاسلامي.
وفي هذا السياق، يصف القس المسيحي الماروني يوحنا عقيقي، مفجر الثورة الإسلامية في ايران الامام الخميني، بأنه "كان عنصراً فاعلاً ومؤثراً للغاية، وشخصية بارزة صانعة للتاريخ، وقد استطاع أن يغير مخططات الجغرافيا السياسية المهيمنة على منطقة الشرق الاوسط .. وهو - اي الامام الخميني - لم يحيي البعد الروحي فقط، بل والبعد الانساني ايضا، وليس للشعب الايراني وحده، وإنما لاانسانية بأسرها أينما وجدت".
وهذا الوصف العميق والدقيق يختزل الكثير من الشرح والتحليل لمختلف ابعاد وجوانب شخصية وسيرة ومسيرة قائد تاريخي كبير مثل الامام الخميني، ولم يبتعد كثيرا ذلك الذي قال في الامام، بأنه "يعد المثل الأعلى للإنسانية للوصول إلى العزة والكرامة والاعتزاز، إذ انه أوجد دافعاً وحافزاً قوياً لدى المسلمين في مختلف انحاء العالم، وهذا الحافز والدافع القوي اشعل ضياء الصحوة الاسلامية في العديد من البلدان التي كانت خاضعة للاستكبار والاستعمار العالمي، والتي عاشت تحت سطوة الجبابرة اعواما طويلة من الزمن".
ولم تتجل عظمة الامام الخميني في ادواره ومواقفه السياسية والجهادية فحسب، وانما تجلت من خلال مكانته الفكرية التي ترجمتها عشرات المؤلفات القيمة في مختلف الجوانب الدينية والفكرية والثقافية والسياسية، والتي جعلته دائم الحضور حتى بعد رحيله في مختلف ميادين العلم والمعرفة، اذ يضم ارشيف مؤسسة تنظيم ونشر تراث الامام الخميني في الوقت الحاضر 1126 خطابا للامام، و470 حكما، و367 رسالة موجهة الى شخصيات سياسية ودينية اجنبية، و420 رسالة موجهة الى شخصيات ايرانية، و350 بيانا، اضف الى ذلك فأن المجموعة المؤلفة من 22 جزءا تحت عنوان "صحيفة النور" مضافا اليها كتاب "مفتاح الصحيفة" - وهو عبارة عن فهرس لاجزائها الاثنين والعشرين - اشمل مجموعة صدرت حتى الان احتوت على احاديث الامام الخميني وبياناته واحكامه ورسائله.
ولعله بعد اثنين وثلاثين عاما على رحيله، يستشعر المرء ان الامام الخميني مازال - وسيبقى - حاضرا بقوة بجهاده وفكره ومنهجه وبساطته وحجم الانجازات التي تحققت على يديه، والواقع هو الذي يتحدث ويؤكد ذلك، وقوة ومكانة الجمهورية الإسلامية الايرانية، والنهضة الإسلامية العالمية من بين أبرز مصاديق الحضور الدائم والتأثير المتواصل للامام الراحل.
نورنيوز-وكالات