خرج الجانب الاسرائيلي من دون إنجاز يُذكر، بعدما ظل - بضوء أخضر أميركي- يسعى الى الساعات الأخيرة قبل وقف النار للحصول على انتصار رمزي، ولو عن طريق اغتيال شخصيات فلسطينية من الصف الأول.
ويمكن تلخيص أهم نتائج هذه المعركة ودلالاتها بالآتي:
على صعيد الداخل الفلسطيني
- تمكنت المقاومة الفلسطينية من صنع التفاف فلسطيني شعبي منقطع النظير حول مشروع المقاومة. والى الأمس القريب، كان هناك من يقول ان المقاومة في غزة ستنتهي عاجلاً او آجلاً بفعل الحصار الخانق، وليس لها أي أفق عسكري أو حتى سياسي وطني، في ظل تعطيل نتائج الحوار الوطني وآخرها الانتخابات التشريعية التي كانت مقررة في 22 أيار/ مايو الجاري.
- أعادت صواريخ غزة لملمة شتات المناطق الفلسطينية في الداخل حول مطلب كان يُعد حتى الأمس من أحلام الماضي البعيد، وهو إعادة الاعتبار للهوية الجامعة بين غزة والضفة والقدس وأراضي 48 وإعادة تكوين الوعي حول وحدة التراب الفلسطيني من النهر الى البحر ورفض التعايش مع المجتمع الصهيوني الاستيطاني الذي أفرز ظواهر متطرفة أقصت جانباً أحلام الفلسطينيين في دولة مستقلة. بهذا المعنى، تكاتفت غزة والضفة والأراضي المحتلة عام 1948 لإرباك العدو وحشره في الزاوية. التحدي لم يعد محصوراً مع غزة، فصفائح الضفة تحركت تحت أقدام العدو مهدِّدة حالة الاستقرار التي عاشها منذ إعادة احتلال الضفة عام 2002 والتي سمحت بتمدد مشروع الاستيطان على أرضها. وأحد الأسباب التي دفعت العدو لوقف النار هو التخوف من فقدان السيطرة الامنية وتهديد مستقبل الاستيطان في هذه المنطقة الحيوية بالنسبة للعدو. كما ان التحرك الشعبي الهادر في الأراضي المحتلة عام 48 أسهم في تسريع العدو لوقف اطلاق النار، بعدما استعاد أهلها الشعور بهويتهم وقرروا المواجهة من منطلق الدفاع عن القدس وليس في مواجهة التمييز والتهميش وحسب.
- تبعاً لذلك، من المتوقع أن تستقي الضفة الغربية روحاً جديدة من المقاومة، بعدما خنقتها اجراءات العدو القمعية بالتنسيق الامني مع أجهزة السلطة الفلسطينية. وستخيم المظلة الصاروخية لغزة ليس على القدس فقط، بل وعلى مناخ الضفة الغربية كذلك بشكل أو آخر، لا سيما ان العديد من الصواريخ وصلت الى مستوطنات الضفة، وكان لها أثر معنوي بالغ. كما من المتوقع أن تشتد حالة التنافر بين الفلسطينيين والمستوطنين في أراضي الـ 48، بعدما بلغت المواجهات بين الطرفين مستوى لم تبلغه من قبل.
- تمكنت المقاومة من كيّ الوعي الاسرائيلي، حين أجادت التحكم في الرأي العام الإسرائيلي، إلى درجة انه كان يأخذ بالإنذارات والمواقيت التي حددتها المقاومة لقصف مستوطنات العدو. وانكفأ الناطق باسم جيش العدو لحساب الناطقين باسم المقاومة. وهذا تطور بالغ الأهمية يقلب الطاولة على العدو الذي طالما كان هو من يمسك بأداة الحرب النفسية في كثير من مراحل الفترة الماضية. ويذكّر ذلك بما حدث في حرب عام ٢٠٠٦، عندما كانت خطابات الأمين العام لحزب الله تحدد للإسرائيليين مسار الحرب وكانوا يتعاطون معها بجدية كاملة، انطلاقاً من مخزون المصداقية الذي كوّنه السيد نصر الله في وعي العدو.
على الصعيدين الإقليمي والدولي
- تمكنت المقاومة الفلسطينية من وضع القدس في قلب الأجندة الوطنية والعربية والإسلامية، بعدما تناسى الكثيرون همّها، وزادت في غربتها موجةُ التطبيع الاخيرة. وانحصر الخلاف التفاوضي في بعض المراحل حول بعض الأحياء العربية في القدس وضواحيها والجهة التي ستتولى الإشراف على المقدسات الدينية. وعندما تصبح القدس اليوم العنوان الأساس وفي صلب المواجهة، فهذا تحدٍ لهيبة الاحتلال غيرُ مسبوق، وهو الذي كان يرفض مناقشة موضوع القدس باعتبارها "عاصمة اسرائيل الموحدة" التي يرفض ان تكون إلا تحت "السيادة الاسرائيلية".
- أعادت المواجهة خلط الأوراق عربياً ودولياً أيضاً، وحددت مجدداً وبوضوح تام العدو المركزي للأمة، بعدما حاول المطبّعون صرف الأنظار عنه الى الجمهورية الاسلامية في ايران ومحور المقاومة. وهذا ما سيدفع العديد من الاطراف المتضررة الى محاولة احتواء الحدث الضخم عن طريق ألاعيب مكررة ومن جملتها دخول أطراف عدة لإنعاش مساعي التسوية الفلسطينية- الاسرائيلية، مما يُعد فرصة للسلطة الفلسطينية جاءتها على طبق من ذهب دون أن يكون لها نصيب في ما حصل.
- ثبت مجدداً ان الكيان الصهيوني يتأثر بل ويخضع في بعض الحالات للموقف الاميركي الذي طلب إليه وقف النار بسبب حساباته الأوسع نطاقاً، بعدما منحه الفرصة ووقتاً إضافياً لتحقيق إنجاز يحفظ له ماء الوجه. وكانت لدى الأميركيين مخاوف من "مخاطر زعزعة الاستقرار على نطاق واسع يتجاوز قطاع غزة إذا لم يتم خفض التصعيد بين إسرائيل والفلسطينيين"، وفق تعبير رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة الجنرال مارك ميلي.
الدلالات العسكرية
- كانت هذه واحدة من أقصر جولات القتال (11 يوما). فآخر جولة جرت عام 2014 دامت اكثر من 50 يوما. وهذا يعني ان قدرات المقاومة وردودها القوية والشاملة جغرافياً على العدوان لم تترك المجال واسعاً أمام الاحتلال للمضي في المعركة. كما يعني ان استنزاف الجبهة الداخلية للعدو لم يعد محتملاً، حيث تعطلت نسبة كبيرة من المرافق الحيوية ومنها مطار بن غوريون وموانئ ومصانع وغيرها من مناحي الحياة.
- لم يتمكن العدو للمرة الاولى من القيام بأي مغامرة برية ووقف متربصاً عند حدود القطاع، برغم ان ضرب تل ابيب والقدس وكبريات مدن العدو يُعدّ سبباً -وفق منطق العدو وأدبياته- "للخروج الى الحرب". لم تجرِ حتى أية عملية كوماندوس خلف الخطوط الفلسطينية، لأن آخر عملية كوماندوس في تشرين الثاني / نوفمبر 2018 انتهت الى فشل ذريع ومقتل ضابط وإصابة عدد آخر. كما ان آخر حرب على غزة في 2014 انتهت الى أسر عدد من الجنود لدى المقاومة الفلسطينية، وبعضهم لا تزال جثثهم في حوزتها الى اليوم.
- تم تحديد "عقب أخيل" الاسرائيلي في هذه المواجهة بشكل محسوس، وهو مدن الوسط في غوش دان، وتبينَ بالملموس أن الاسرائيلي لا يقوى على حماية هذه المنطقة من الصواريخ غير الدقيقة، فكيف سيكون الحال مع الصواريخ الأكثر تطوراً في الحرب المقبلة؟ وقد أشار الامين العام لحزب الله الى هذه النقطة الهامة مع شرح بالخرائط في مقابلة تلفزيونية خلال شهر تموز/ يوليو 2019.
- خرج العدو من هذه المواجهة وهو يفتقد الثقة بالنفس وبقدرة جيشه على تحقيق انتصار في أي حرب يخوضها، في ضوء أدائه الضعيف أمام المقاومة في غزة، ما خلا التدمير الواسع للمرافق المدنية بسلاح الجو والذي لم يحقق إنجازاً ذا مغزى. وهناك سؤال كبير عن مصير الردع الذي يتفاخر به لإبقاء الطرف الآخر تحت هيمنته.
- كانت الخشية من تحرك الجبهة الشمالية من العوامل التي سرّعت في اتخاذ العدو قرار وقف النار، وقد اعتبرت أوساطه ان تكرار إطلاق الصواريخ من جنوبي لبنان جرى بموافقة ضمنية أو بغضّ نظر من حزب الله. يضاف الى ذلك تحليق طائرات مسيرة فوق فلسطين المحتلة انطلاقاً من هذه الجبهة.
يبقى أن العدو لن ينام على الهزيمة، وهو الذي بنى وجوده على السطوة، وسيحاول إعادة الاعتبار لصورته المنكسرة واستعادة هيبته المهدورة من خلال عمليات أمنية او ضربات عسكرية على غير جبهة. ونذكّر بأنه بعد هزيمة ٢٠٠٦، لجأ العدو عام 2007 الى شن غارة على ما أسماه "مفاعل" الكبر في دير الزور وأعطى للغارة بُعداً استراتيجياً، كما لجأ عام 2008 بمعاونة أجهزة استخبارات حليفة له الى اغتيال القائد عماد مغنية في دمشق، وشن عام ٢٠٠٨ كذلك حملة عسكرية على قطاع غزة. كل ذلك يدفع الى المزيد من اليقظة والإعداد في المرحلة المقبلة، ولو ان العدو بعد المعركة الأخيرة أضحى أكثر انكشافاً بمواطن ضعفه.
العهد