أمّا الحدثُ الذي جرى، فهو نزولُ القرآنِ الكريم؛ بابِ هدايةِ البشرِ إلى كمالِهم وسعادتِهم رحمةً من اللهِ عزَّ وجلَّ، وكما وصفهُ أميرُ المؤمنينَ (عليه السلام) بقولِه: «القرآنُ ظاهرُه أنيق، وباطنُه عميق، لا تفنى عجائبُه، ولا تنقضي غرائبُه، ولا تُكشَفُ الظَّلماتُ إلّا به».
وأمّا الحدثُ الذي يجري، فهو الحكمةُ الإلهيةُ التي تتنزَّلُ بتقديرِ ما يجري على البشرِ جميعاً في عامِهم، وقدْ وردَ التعبيرُ عن ذلك في الآيةِ المباركةِ من أوائلِ سورةِ الدخانِ بأنّه رحمةٌ من ربِّك، فهي ليلةُ تنزُّلِ الرحمة، وبعدها جاءتْ صفةُ «السميع العليم»، ففي تلك الليلةِ أبوابُ السماءِ تُفتَّحُ لتصلَ إليها أصواتُ الداعين، فيقدَّرُ لهم في عامِهم ما فيه الخيرُ لهم.
اختلفت الأحاديث في تحديدها، ولعلّ المشهور في أحاديث الإمامية، أنها ليلة ثلاث وعشرين، فقد جاء في رواية عبد الله بن بكير عن زرارة عن أحد الإمامين الباقر والصّادق (ع).
موقع هذه اللّيلة في الزّمن
إنّ التّدقيق في الآيات التي تحدثت عن نزول القرآن، يوحي بأنّها من ليالي شهر رمضان، وذلك كما في قوله تعالى: "شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ"، (البقرة: 185)، وقوله تعالى: "إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيلَةٍ مُّبَارَكةٍ إِنَّا كنَّا مُنذِرِينَ، فِيهَا يفْرَقُ كلُّ أَمْرٍ حَكيمٍ، أَمْراً مِّنْ عِنْدِنَآ إِنَّا كنَّا مُرْسِلِينَ"، (الدّخان: 3ـ5)، فإنّ الظاهر منها ـ بالمقارنة مع سورة القدر ـ أنّ المراد بها ليلة القدر.
وقد اختلفت الأحاديث في تحديدها، ولعلّ المشهور في أحاديث الإمامية، أنها ليلة ثلاث وعشرين، فقد جاء في رواية عبد الله بن بكير عن زرارة عن أحد الإمامين الباقر والصّادق(ع)، قال: ليلة ثلاث وعشرين هي ليلة الجهني، وحديثه أنّه قال لرسول الله(ص)، إنّ منزلي ناءٍ عن المدينة، فمرني بليلةٍ أدخل فيها، فأمره بليلة ثلاث وعشرين.
وهناك رواية في «الدرّ المنثور» عن مالك والبيهقي بهذا المعنى، والمعروف عند علماء أهل السنّة، أنّها ليلة سبعٍ وعشرين.
ما هو القدر؟
وما هو المراد بالقدر؛ فهل هو بمعنى الشّرف والرّفعة في ما يمثّله ذلك من علوّ الدّرجة والمنزلة، لما لها من المنزلة الرّفيعة عند الله، أم أنّ المراد التقدير، فهي اللّيلة الّتي يقدّر الله فيها كلّ أحداث السنة، من حياةٍ وموتٍ، وبؤسٍ وشقاءٍ، وحربٍ وسلمٍ وغير ذلك، ولعلّ هذا هو الأقرب، بلحاظ قوله تعالى: "فِيهَا يفْرَقُ كلُّ أَمْرٍ حَكيمٍ، أَمْراً مِّنْ عِنْدِنَآ إِنَّا كنَّا مُرْسِلِينَ"، (الدخان: 4ـ5)، وقوله في آخر السّورة: "تَنَزَّلُ الْمَلائِكةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كلِّ أَمْرٍ".
سرّ من أسرار الله
"وَمَآ أَدْرَاك مَا لَيلَةُ الْقَدْرِ"، فليس شأنها مما يمكن للإنسان أن يدركه بنفسه، لأنّ ذلك سرّ الله في الزّمان، كما هو سرّه في المكان وفي الأشخاص، فهو الخالق للوجود كلّه، بكلّ أنواعه، وهو الذي يمنح هذا بعضاً من الخصوصية الّتي تجعل منه «شيئاً مذكوراً»، ويمنح ذاك بعضاً من الأسرار الّتي تجعله شيئاً عظيماً، لأنّ الّذي يخلق الوجود هو القادر على أن يمنحه قيمته. وهكذا جعل الله لهذه اللّيلة قيمتها الروحية: "لَيلَةُ الْقَدْرِ خَيرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ"، وقد لا يكون هذا الرّقم تحديداً في الكمّ، فربما كان تقريباً للنّوع في الدّرجة الّتي يتضاءل أمامها كلّ زمنٍ من هذه الأزمنة الّتي لا تحمل إلا الذرّات الزمنية المجرّدة.
وهل أخذت شرفها من إنزال القرآن فيها، أم أنّ شرفها سابقٌ عليه؟ الظّاهر الثّاني، لأنّ الله يقول: "إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيلَةٍ مُّبَارَكةٍ"، "الدخان: 3"، فهي مباركةٌ في ذاتها. وربما كان نزول القرآن فيها على أساس أنّه من الأمر الإلهي الّذي يتنزل به الملائكة. وأي أمرٍ أعظم من القرآن الّذي هو النّور والهدى للبشرية من خلال اللّطف الإلهي الّذي يصل الأرض بالسّماء، ويدفع بالحياة إلى السّير على الخطّة الإلهية الحكيمة في الفكر والمنهج والشّريعة والمفهوم الكامل الشّامل للحياة، الّذي يفتح للإنسان أكثر من نافذةٍ على الرّوح القادم من عند الله، ليزداد ـ بذلك ـ ارتفاعاً في السّماوات الروحية العليا في رحاب الله؟!.
"تَنَزَّلُ الْمَلائِكةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كلِّ أَمْرٍ"، وهذا هو سرّ اللّيلة الّذي تتنزّل به الملائكة، الّذين يوكل الله إليهم المهمّات المتعلقة بالكون الأرضي المتّصل بالإنسان من كلّ أمرٍ يهمّه أو يتعلّق بشؤونه، في رزقه، وحركته وعمره، ونحو ذلك. كما يتنزّل به الرّوح الّذي قد يكون المراد به جبريل (ع)، الّذي امتاز عن الملائكة ـ حسب الأحاديث الكثيرة ـ بأنّه الرّسول الّذي يحمل الوحي للأنبياء ليبلّغوه للنّاس، وقد يكون المراد به الخلق العظيم الّذي يتميز بقدرةٍ خاصّةٍ غامضةٍ، أو بطبيعة مختلفةٍ عن طبيعة الملائكة. ولكن ما هي تفاصيل ذلك الأمر؟ وما هي ملامحه الدّقيقة؟ إنّ ذلك مما لم يبينه الله لنا، ولكنّنا نعرف أنّ هناك بياناً لكلّ أمرٍ حكيم، أمراً من عند الله، وقد فسّره المفسّرون بالأرزاق والآجال والأوضاع المتّصلة بحياة الإنسان.
ومهما كان، مما يمكن للإنسان فهم معناه، وبلوغ مداه، أو مما لا يمكن له الوصول إلى ذلك، فإنّ الآية توحي بأنّ هناك سرّاً ربّانياً يثيره الله في هذه اللّيلة في الكون الإنساني، من خلال رحمته الّتي يرحم بها عباده، ولطفه الّذي يلطف به في حياتهم العامّة أو الخاصّة.
ليلة القدر سلام للرّوح
"سَلامٌ هِي حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ"، فليس فيها أي معنًى يوحي بالشرّ والبغض والأذى مما يرهق مشاعر السَّلام للإنسان؛ إنَّه سلام الرّوح الّذي يمتدّ في روحانية هذه اللّيلة، في كلّ دقائقها وساعاتها في رحمة الله ولطفه. "حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ"، ليبدأ يومٌ جديدٌ يتحوّل فيه الإنسان ـ في ما أفاض الله عليه من روحه وريحانه ـ إلى إنسانٍ جديد، هو إنسان الخير والمحبّة والسّلام، في آفاق الله الرّحمن الرّحيم الّذي هو السّلام المؤمن العزيز الجبّار المتكبّر.
وتلك هي ليلة القدر الّتي قد يكون لها موعدٌ معينٌ معلومٌ، لأنّ الله ربما أخفاها في اللّيالي، لينطلق العباد في أيامه، ليصلوا إليها، ليتعبّدوا لله في أكثر من ليلةٍ، لاحتمال أنّها ليلة القدر، حتّى يتعوّدوا أن تكون لياليهم في معنى ليلة القدر، في العبادة والخضوع والقرب من الله. وذلك ما يريده الله لعباده، أن يتقرّبوا إليه، ويلتقوا به، ليصلوا إليه بأرواحهم وقلوبهم، لأنّهم لا يملكون الوصول إليه بأجسادهم.
هناك ثلاث نقاط يجدر ذكرها:
أولاً: أنّنا سنبدأ بالرسول الأكرم صلى الله عليه وآله: عن علي (ع) أن رسول اللَّه (ص) كان يطوي فراشه، ويشدّ مئزره في العشر الأواخر من شهر رمضان، وكان يوقظ أهله ليلة ثلاث وعشرين، وكان يرشّ وجوه النّيام بالماء في تلك الليلة.
وأمّا ثانياً: ما كان يفعله أهل البيت عليهم السلام: وكانت فاطمة عليها السلام لا تدع أحداً من أهلها ينام تلك الليلة وتداويهم بقلّة الطعام وتتأهّب لها من النهار وتقول: محرومٌ من حرم خيرها.
وأما ثالثاً: فإنّنا نرى أن أهل البيت عليهم السلام يؤكدون في أحاديث كثيرة على الاهتمام بليلة القدر والإكثار من قراءة القرآن الكريم وقراءة سورة الدخان والعنكبوت والروم على وجه الخصوص، والدعاء، والتضرّع والاغتسال فيها وإحيائها إلى الفجر. وهم كانوا السبّاقين إلى ما يأمرون به ويؤكدون عليه.
نورنيوز-وكالات