إلاّ أن ابرز الدول التي تزعم الانضواء تحت راية هذه المعاهدة، أعلنت مؤخراً أنها بصدد تطوير ترسانتها النووية، بل ذهبت لأبعد من ذلك لتتجاوز حدود الصلافة السياسية، إذ وصف وزير الخارجية البريطاني "دومينيك روب" خطة إدارة بوريس جونسون بشأن تطوير الترسانة النووية البريطانية بأنها ضرورية لما سماه جهاراً "الحد الأدنى من الردع".
وبناءا على تلك الذرائع غير المبرّرة، قرّرت الحكومة البريطانية رفع سقف ترسانتها النووية من 180 الى 260 رأسا نووياً.
يفرض هذا الإجراء البريطاني علينا طرح بعض النقاط الجديرة بالملاحظة:
أولاً؛ نفاق ومُخادعة البرنامج النووي البريطاني يكشفه تمحّص قليل للتاريخ، إذ في الوقت الذي تعادي فيه لندن الأنشطة النووية السلمية لإيران، نراها تقف موقف المتفرّج من مواجهة أنشطة الكيان الصهيوني ووقف ترسانته المدجّجة بعشرات الرؤوس النووية والتي لا ينفك عن تطويرها حتى اليوم.
ثانياً؛ تحاول بريطانيا تبرير تحركاتها النووية المهدّدة للأمن الدولي، تحت ذريعة "رهاب إيران"، بينما أقرّت الوكالة الدولية للطاقة الذرية دائما بالطبيعة السلمية لبرنامج إيران النووي، وأن فتوى قائد الثورة الاسلامية بتحريم صناعة واستخدام الأسلحة النووية هي أفضل ضمان على سلمية برنامج ايران النووي وخير دليل على أنها ترنو السلام العالمي.
يشار إلى أن بريطانيا تصف أنشطة إيران بأنها تمثّل تهديدا، بينما تصرّ الجمهورية الإسلامية على أنه إذا رُفعت جميع العقوبات وتحققت طهران من هذا الاجراء بشكل فعلي، فإنها مستعدة للعودة إلى التزاماتها في الاتفاق النووي، في حين ترفض الدول الغربية الوفاء بالتزاماتها برفع العقوبات عن ايران، وكل هذا دليل على زيف تبريرات بريطانيا المتخوفة من إيران.
ثالثاً؛ المفارقة الثالثة هو أن بريطانيا تبرّر زيادة حجم ترسانتها النووية بذريعة "التهديد النووي الروسي"، في الوقت الذي تصرّ فيه موسكو وبإصرار دائم على تمديد اتفاقية ستارت مع الولايات المتحدة التي من شأنها تخفيف عبئ السلاح النووي عن كاهل الارض، إلاّ أنها واجهت رفضاً قاطعاً من قبل ترامب وتسويفاً من قبل بايدن.
ولو أن بريطانيا تُنشد السلام العالمي كما تزعم، كانت ستدفع امريكا نحو وقف تحركاتها غير السلمية والتهديدية عالمياً، بما في ذلك في المجال النووي، عوضاً عن توسيع قدراتها النووية، وزيادة الطين بلة.
رابعاً؛ تستخدم بريطانيا مصطلح "الردع" كمطية لتطوير ترسانتها النووية، في حين أن دعمها للإرهاب والكيان الصهيوني والنظام السعودي، ومساندتها الواسعة للعقوبات الأمريكية ضد الدول والشعوب، يعرّض الأمن العالمي للخطر. لكن ما يمكن التأكيد عليه هنا، هو أن نبذ بريطانيا للأنشطة الإرهابية وقطع الايدي الراعية لها، لاسيما وان العديد من هذه الانشطة ينضوي تحت مظلّة الدعم البريطاني، بما في ذلك الترهيب الاقتصادي، سيكون عنصرا هاما في استتباب الأمن العالمي، وفشل بريطانيا في تغيير سلوكها سيمهد الطريق لاستمرار الأزمة وتفاقمها.
خامساً؛ مفارقة اخرى تشدّ الانتباه، فبينما يزعم قادة بريطانيا وكبار مسؤوليها أن اجراء بلدهم يأتي في إطار "الردع النووي"، عليهم توجيه أنظارهم نحو داخل البلاد المتعفّن، وسيظهر جلياً لهم حجم الأزمة الاقتصادية والانقسامات الاجتماعية التي يعيشونها، خاصة التمييز ضد الملونين، وعدم قدرة الحكومة على التعامل مع أزمة كورونا وارتفاع حصيلة قتلى الفيروس في البلاد، إضافة الى أزمة الانتخابات، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وما يترتب على ذلك من نتائج اقتصادية واجتماعية، كما تمثّل عودة الإرهابيين المدربين من قبل الهياكل الأمنية البريطانية بعد تلقيهم هزيمة نكراء في سوريا والعراق، كابوساً يؤرق المسؤولين في بريطانيا.
هذه "التهديدات" المتجذّرة في سياسات حكومات هذا البلد، لا يمكن القضاء عليها بزيادة عدد الرؤوس النووية، لاسيما ان بريطانيا تواجه أزمة شرعية في الداخل وانعدام ثقة عالمي، بل الأفضل أن تبادر لندن بتغيير سلوكها ووضع حدّ للاستبداد داخل البلاد والممارسات الاستعمارية خارجها.
سادساً؛ تعكس خطوة بريطانيا وفرنسا وأمريكا بزيادة حجم ترساناتها النووية، وكذلك تحرك ألمانيا لزيادة ميزانيتها العسكرية، صراعا على السلطة داخل الكتلة الغربية ويسلط الضوء على انهيار النظام الرأسمالي الأمني.
موقف القادة الأوروبيين من الاستقلال الأمني عن امريكا وحلف شمال الأطلسي، هو دليل آخر على هذه الأزمة الأمنية في النظام الرأسمالي، وهي أزمة تشهد خلافات اقتصادية واسعة بين أوروبا وامريكا، فضلاً عن أزمة الانفصام فيما يخصّ التنسيق بشأن مكافحة كورونا، والمنافسة غير الصحية والحرجة في هذا المجال، كشفت عن أبعاد أخرى للأزمة الرأسمالية.
في الختام، فإن الخطوة البريطانية، إلى جانب توضيح المعايير الغرب الازدواجية التي تكشف شرعية "عدم الثقة" الإيرانية بالاطراف الغربية، تؤكد على الدور المدمر لبريطانيا في الأمن والسلم العالميين وهو ما يستدعي تحرّك الأمم المتحدة والوكالة الدولية للطاقة الذرية لمواجهة هذه العنجهية الانكليزية.
وأخير وليس آخرًا، يتوجّب على المنظمات الأممية التعامل مع السلوك التصعيدي لدول من قبيل بريطانيا وفرنسا وامريكا، وبموجب القانون الدولي، حتى لو استدعى الامر استخدام عصا الضغط السياسي والعقوبات، والتي تشكل تهديدًا كبيرًا للأمن العالمي من خلال الأنشطة النووية غير السلمية والمنافسة العالمية.
نورنيوز