إنّ الكامل الأيوبي تحاصره اللعنات حياً وميتاً، فمجرد ذكر اسمه يثير الرغبة باللّعن، رغم أنّه مقارنة بنواقص لا كوامل العصر، هو شديد الفروسية والعزة، فحين اجتاح الصليبيون مصر واستولوا على دمياط، عرض عليهم السلطان الكامل بيت المقدس وكل ما حرره صلاح الدين، مقابل الخروج من دمياط، لكنهم رفضوا عرضه الذليل لقناعتهم بأنهم سيتولون على كل ذلك بالقوة، لكن الكامل اتفق مع أخويه الأشرف موسى والأشرف عيسى في الشام، واستطاعوا القضاء على الحملة "الصليبية" ودحرها عن دمياط، وبعد أن دبَّ الخلاف بين الإخوة، أعاد الكامل عرضه الذليل للإمبراطور فريدريك، امبراطور الدولة الرومانية المقدسة في غرب أوروبا، على أن يمنحه بيت المقدس وبين لحم والناصرة وصيدا، مقابل مساعدته في حرب اخوته. قبِلَ الإمبراطور العرض وخرج على رأس حملةٍ هي الأغرب في التاريخ، حيث لم يتجاوز تعدادها 600 فارس، لكنه حين وصل كان الكامل قد تراجع عن عرضه، حيث مات أخوه واقتسم ملكه مع أخيه الثالث، ولكن فريدريك لم يستسلم لنكوص الكامل عن وعده، فذرف الدموع بين يديه تذللاً، وقال له "أنا مملوكك وعتيقك وليس لي عمّا تأمره خروج".
استسلم الكامل لتذلل فريدريك ودموعه غير المنقطعة وانحناءاته التي ما ارتفعت، وتم التوقيع على اتفاقية التسليم والتي عُرفت باتفاقية يافا، فأقام المسلمون المآتم على امتداد جغرافيا وجودهم. شعر الكامل بأنّه تورّط مع فريدريك، فراح يشيع أنّه لم يفرط بالأقصى، إنما منحهم الكنائس والبيوت الخربة. وهذا يشبه إشاعات المطبعين المفرطين الجدد، بأنّهم متمسكون بالحقوق الفلسطينية، متشبثون بالقدس عاصمةً للدولة الفلسطينية وبحلّ الدولتين، وهم خونة ولو صدقوا بمستمسكاتهم الرثّة والخربة، فكيف وهم كاذبون؟ ولكن الفرق بينهم وبين الكامل أنّ امبراطور الفرنجة أتاه ذليلاً باكياً منحنياً، بينما هؤلاء أتى بهم ترامب أذلة بمجرد تغريدة على تويتر، وعيونهم متحجرة بالوقاحة وسحناتهم تبلدها الصفاقة، كما أنّ الأمة التي فتحت المآتم في عهد الكامل، وراح يستعطفها حين استشعر إمكانية غضبتها، ها هم أخلافها يرتعون بالصمت وبلاهة العيون، فلم يفتحوا مأتماً في أي عاصمةٍ أو مدينة، بل على العكس من ذلك، هناك بعض العواصم التي أقامت الأفراح، وكأنّها تحللت من عبء الشرف، الذي كان يثقل كاهلها جبراً.
وآخر المطبعين وليس أخيرهم، كان ملك المغرب محمد السادس، والمغرب ليست جديدة على هذا "الكار"، فمنذ ستينيات القرن الماضي كانت العلاقات خصوصاً الأمنية بين الملك الحسن الثاني وكيان العدو قائمة، لكنها كانت في إطارٍ ضيق وتحت وطأة رفضٍ شعبي، بينما ما فعله ترمب من خفر الملك بتغريدة تويترية، هو أخطر من كل ما سبق. فالملك وضع شعبه في حالة تنازعٍ وطنية، حيث مقابل التطبيع اعترافٌ أمريكي بمغربية الصحراء، فوضع الملك شعبه بين وطنية قضية الصحراء ووطنية قضية فلسطين، إن كنتم أيها المغاربة تريدون الصحراء فتنازلوا عن فلسطين، هذه المعادلة التي يقدمها الملك لشعبه، كأن تخيّر أحداً بين العيش ذليلاً أو العيش مقهوراً، رغم أنّ اعتراف ترمب بالسيادة المغربية على الصحراء لا يُقدم ولا يؤخر، فهو على مستوى السياسة الأمريكية مجرد مرسومٍ يشبه تغريدات ترامب عن تزوير الانتخابات، أمّا دولياً فلا قيمة قانونية له، فلا يستطيع ترامب استصدار قرارٍ دولي بذلك، لكنه مغربياً منحىً خطر، حيث سيعتبر مقدمةً لاعتراف المغرب بالسيادة "الإسرائيلية" على القدس، فلن يقبل ترامب أو نتن ياهو، اعترافاً مغربياً بل واحتفاءً بمرسوم الصحراء والتنصل من مرسوم القدس، وهو ذات المرسوم بذات اليد وذات الخطّ، كما وسيعترف المغرب -أو بالأحرى فقبوله بمرسوم ترامب الفارغ هو اعترافٌ ضمني - بـ"إسرائيلية" الجولان المحتل، والأخطر هو تكريس مفهوم "عربي" يعتبر المراسيم الأمريكية قوانينَ دولية، فتنزعهم المراسيم الأمريكية ما شاءت وقتما شاءت وكيفما شاءت.
كما أنّ التطبيع المغربي العلني، والذي فعلاً هشّم ما اختزنه العقل العربي من زمن المحيط الهادر إلى الخليج الثائر، ليكتمل الطوق "الإسرائيلي" على عنق الجغرافيا العربية، سيجعل الجزائر في عين العاصفة، كما قال رئيس وزرائها بأنّها "مستهدفةٌ بجلب "إسرائيل" إلى حدودها"، وهذا ما سيجعلها في حالة استنفارٍ أمنيٍ دائم، بما سيترتب عليه من استهداف اقتصادي ومالي وثقافي، وبكل ما سينتج عنه من استنزافٍ دائم، وسيضع المزيد من العراقيل في عجلة العلاقات المغربية الجزائرية. ولا أريد أن أكون رومانسياً وأقول إنّ قضية الصحراء تُحلّ بين المغرب والجزائر دون الحاجة لمراسيم أمريكية، سيدفع ثمنها المغرب غالياً من وطنيته وكرامته وأمنه واستقراره ولقمة عيشه، قبل أن يتلمس أو حتى يعرف فوائدها. وعلى حكام المغرب فقط أن ينظروا ليس بعيداً، بل قريباً في الوقت والجغرافيا، فحين خفر ترامب عسكر السودان بتغريدة أيضاً إلى حظائر التطبيع، دفعوا مئات الملايين من الدولارات بعد دقائق معدودة من زمن التغريدة، وذلك لرفع اسم السودان من قوائم الإرهاب الأمريكية، بينما حتى اللحظة لم يتحقق المراد، وظل السودان على تلك القوائم وسيظل، حتى تستنزفه رغبات نتن ياهو، وكذلك سيظل المغرب في انتظار العطايا الأمريكية بعد مرسوم الورق، الذي وعد ترامب فيه باستثمار 3 مليارات دولار في المغرب، وهو وعدٌ إماراتي سعودي بالأصل، فترامب يعتبر الخزائن السعودية والإماراتية رهن توقيعه. إنّ الملك المغربي وحكومته الإخوانية طعنا وطنية شعبهما في الصميم وليس فلسطين فقط، ووضعاه بين خيار قطع الرأس أو نزع القلب.
موقع العهد