على هامش أعمال الدورة الـ75 لأعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، نظم "مركز الملك حمد العالمي للتعايش السلمي" ندوةً افتراضيةً تحت عنوان "لماذا الحرية الدينية أو حرية المعتقد مسألة حيوية للسلام؟ مملكة البحرين نموذج تاريخي".
رئيس مجلس الأمناء، خالد بن خليفة آل خليفة، قال إن المركز "يواصل طرح برامج نوعية لترسيخ قيم التسامح والتعايش السلمي بين النشء، من ضمنها تخصيص بعثات دراسية في جامعة سابينزا الإيطالية ضمن كرسي الملك حمد للحوار بين الأديان، ونيل شهادات البكالوريوس والماجستير والدكتوراه في مجال التسامح والتعايش السلمي، إضافةً إلى إطلاق برنامج الملك حمد للإيمان بالقيادة، بالتنسيق مع جامعتي أكسفورد وكامبريدج العريقتين، لتخريج جيل واعد من القادة الشباب المحبين للسلام[1]".
لا يخفى على جامعات أوروبا العريقة، سابينزا وأكسفورد وكامبريدج، سياسات الإقصاء الطائفي والتمييز العنصري لدى السلطة في البحرين، وجريمة تعرض ثمانية وثلاثين مسجداً للهدم غير القانوني في فترة 2011 للسلامة الوطنية، في ما وصفه آنذاك رئيس اللجنة البحرينية المستقلة لتقصي الحقائق، البروفيسور الراحل محمود شريف بسيوني، بأن "توقيت الهدم وأسلوبه يعطي انطباعاً عن كون ذلك عقاباً جماعياً لطائفة بعينها[2]"، فعن أي "جيلٍ واعدٍ من القادة الشباب المحبين للسلام" يتحدث خالد بن خليفة آل خليفة؟ وأي قيمٍ سيؤدلجها؟ وأي تعايشٍ سيعطيه ويبشر به "فاقده"؟
ولا يخفى أيضاً على هذه الجامعات العريقة التاريخ الطويل من الاضطهاد الممارس في البحرين ضد المعارضين السياسيين[3]، وعشرات الإدانات والتوصيات من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وتقارير المنظمات الحقوقية الدولية[4] التي توثق انتهاكات النظام الفظيعة، ولا سيما في أعقاب حراك 2011 السلمي المطلبي، رغم كل محاولات تلميع صورته القمعية، فقد ركز النظام جهوده على المراوغة وكم الأصوات الناقدة له، منفقاً أكثر من 40 مليون دولار على فعاليات وهيئات ومنظمات صورية، مهمتها تزييف الحقائق والتغطية على الانتهاكات الممنهجة بحق المطالبين بالتحول الديموقراطي، مستفيداً من الغطاء البريطاني وازدواجية معايير الإدارة الأميركية وتواطؤ المجتمع الدولي، ومستغلاً ثروات البحرينيين المهددين بعجز مالي قدره 798 مليون دينار.
دعونا فقط نتأمل في التسميات: "رئيس أمناء مركز الملك حمد العالمي للتعايش السلمي خالد بن خليفة آل خليفة"، "الملك حمد"، و"آل خليفة"... لنلحظ أننا في الواقع نتحدث عن شركةٍ عائليةٍ لا عن "دولة". وبالتالي، فالندوة التطبيعية المنظمة لم تتعد كونها كرنفالاً عائلياً لا يمثل قناعات البحرينيين، ولا يعكس واقع الحال اللاتعايشي الذي يفرضه مدّعو التعايش ومنافقو التسامح في المحفل الدولي.
إنها عائلةٌ مستبدةٌ أخلت بدستورية القرار السيادي، وتجاوزت الإرادة الشعبية، ويعد إعلامها ومطبلوها أنموذجاً في ترسيخ الخطاب الفتنوي الطائفي المحرض على الكراهية[5]. لقد تسبّب هذا الخطاب اللاتعايشي[6]، ولا يزال، في استفحال الشرخ الاجتماعي بين المكون الاجتماعي العريض، أي الشيعة، والسلطة التي تمتهن فنون التلميع والرشاوى.
خير دليلٍ يذكر هنا هو هدية الـ1.7 مليون يورو التي كشفت عنها صحيفة "الموندو" الإسبانية مؤخراً، والتي تلقاها ملك إسبانيا السابق خوان كارلوس كهدية من ملك "التعايش"، بهدف الترويج لنظامه بعد أن هوت سمعته إلى الحضيض أوروبياً، فضلاً عن استضافته مراراً فعاليات مثل سباق "الفورمولا 1"، الذي يصفه النشطاء بكونه أداةً لتلميع صورة النظام والتغطية على انتهاكاته.
في الواقع، هذه الفعاليات التسامحية المزعومة وغيرها الكثير من الفعاليات الرياضية، ليست سوى ضحك على لحى الغربيين، ومنفذ استباقي يلج النظام عبره لارتكاب المزيد من الانتهاكات، وهرطقات "تسامحية" يمولها من جيوب الشعب الذي يعاني من تفشي البطالة والفقر وممارسات التعذيب والتنكيل والقتل ومصادرة الحريات.
لا شكّ في أن جامعات أوروبا العريقة سابينزا وأكسفورد وكامبريدج على درايةٍ بتاريخ الحكومة غير المنتخبة في البحرين، وتهميشها الممنهج للشيعة وحرياتهم الدينية التي تكفلها المادة 18 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، إلى جانب الانتهاكات التي يتعرض لها معتقلو الرأي في السجون، والذين يشكل الشيعة النسبة الأكبر منهم، إذ يحرم هؤلاء من أداء شعائرهم الدينية[7].
هذه الانتهاكات وثّقها تقرير[8] اللجنة الأميركية للحريات الدينيّة للعام 2019، مؤكّداً أنّ حكومة البحرين تواصل "أعمال التمييز والقمع بحقّ الطائفة الشيعية على أساس هويتها الدينية". اللجنة صنّفت البحرين كـ"دولة مثيرة للقلق"، وذلك لتورطها في انتهاكات صارخة ومستمرة وممنهجة "لا تستند إلى مخاوف مشروعة كما تبرّر الحكومة"، وقالت إن الحكومة تستخدم ذريعة "دعم إيران" لشنّ حملة مفرطة على الشيعة من دون إثباتات، وأدى ذلك إلى نفي العديد من المعارضين المسالمين وسحب جنسياتهم.
عن الواقع اللاتعايشي المعيش في البحرين، وعن غيض من الفيض الإقصائي الذي فرضته السلطة، تحدثنا "اليوتيوبر" البحرينية مريم الزيرة[9] التي بثّت عبر قناتها في "يوتيوب" مقطعاً تحت عنوان "بحراني جكن ناجتس"، تتحدّث فيه عن التمييز الممارس ضد طائفتها، والذي دفعها إلى إخفاء لهجتها "البحرانية" (تقصد بها لهجة شيعة البحرين)، كي لا تتعرض للسخرية والازدراء.
تتحدّث مريم عن التوظيف الّذي لا يعتمد معايير الكفاءة، بل المذهب، وتورد أنَّها في بعض مقابلات التوظيف لاحظت كيف تغيّرت ملامح الشخص الذي يجري معها المقابلة عندما بدأت تتحدث بلهجتها "البحرانية" الصريحة، وكيف كان ينظر إليها بدونية.
الشّابة تشرح أنها شعرت بالارتياح عندما علمت ذات مرة أنَّ إحدى مقابلاتها على تلفزيون البحرين ستكون باللغة الإنجليزية، وبالتالي ستجنبها التنمر، وتلخّص الحالة بعبارة: "إنه لأمرٌ صعبٌ أن تكون بحرانياً".
ولا شكَّ أيضاً في أن جامعات أوروبا العريقة سابينزا وأكسفورد وكامبريدج على درايةٍ بالتمييز الذي يطال توزيع البعثات التعليمية للطلبة في البحرين على أساس طائفي رغم تفوقهم واستيفائهم للشروط، كذلك ما تقوم به وزارة التربية والتعليم من إجبار السفارات والبعثات الدبلوماسية على تسليم كل ما تطرحه من بعثات لها، بهدف تهميش فئةٍ معينةٍ، أكاديمياً، فضلاً عن عملية الفصل الممنهجة من وزارات الدولة، وتضييق فرص التوظيف، والتجنيس السياسي الهادف إلى تغيير هُوية البلاد الديموغرافية وفرض واقع يدفع باتجاه تقويض قيمها ودمج مكوّنات لها ثقافتها المختلفة عن ثقافة المجتمع البحريني، فعن أي تعايشٍ يتحدث بيت الحكم وندواته ومهندسوها؟ وهل تسوّق جامعات أوروبا العريقة سابينزا وأكسفورد وكامبريدج لنظامٍ ديكتاتوري شمولي لا يعير الإرادة الشعبية أدنى أهمية؟
الميادين