نورنيوز: لقد جعلت الكوارث الإنسانية التي استمرت لسنوات في غزة العالم يشهد مأساة غير مسبوقة: آلاف الشهداء، وتدمير واسع النطاق للبنية التحتية، وخراب ذريع. لكن الاستجابة العالمية لم تقتصر على التصريحات السياسية. بل بدأت موجة من المقاطعات المدنية والثقافية والعلمية والفنية بالتبلور، مما يُظهر أن مقاطعة إسرائيل أصبحت الآن حركة أخلاقية وثقافية عالمية. في الأيام الأخيرة، هزّت ثلاث موجات على الأقل من المقاطعة في مجالات السينما والموسيقى والعلوم كيان الكيان الصهيوني.
السينما: الفن كمجال للمقاومة الأخلاقية
أعلن أكثر من 4000 فنان ومخرج سينمائي عالمي، من بينهم ممثلون ومخرجون حائزون على جوائز أوسكار، في بيان أصدره ائتلاف "عاملو السينما من أجل فلسطين"، رفضهم التعاون مع مؤسسات السينما الإسرائيلية المتورطة في "الإبادة الجماعية والفصل العنصري" ضد الشعب الفلسطيني.
ومن أبرز الموقعين على هذا التعهد: أوليفيا كولمان، ويورغوس لانثيموس، وخافيير بارديم، وآمي لو وود، وسوزان ساراندون، وكلايف برنارد، وإيزابيل كويست، ومارك رافالو، وريز أحمد، وتيلدا سوينتون، وكين لوتش، وآفا دوفيرناي. ويشير البيان إلى مهرجانات القدس وحيفا ودوكافو السينمائية، بالإضافة إلى شبكات التلفزيون الإسرائيلية ومعظم شركات إنتاج وتوزيع وبيع الأفلام في البلاد، كأمثلة على المؤسسات المتواطئة في الإبادة الجماعية والفصل العنصري.
هذه الحركة استمرارٌ للتجربة التاريخية لمجموعة "صانعي الأفلام المتحدون ضد الفصل العنصري" عام ١٩٨٧، وهي مجموعة أسسها جوناثان ديمي ومارتن سكورسيزي، والتي رفض فيها أكثر من ١٠٠ مخرج سينمائي بارز عرض أعمالهم في جنوب أفريقيا إبان نظام الفصل العنصري. يُظهر هذا التاريخ أن السينما لطالما كانت على تقاطع الأخلاق والسلطة، فإما أن تنحاز إلى الإنسانية أو أن تصبح، دون قصد، أداةً لشرعنة القمع.
الموسيقى: يوروفيجن واختبار الضمير الجماعي
في مجال الموسيقى، أعلنت هولندا وأيرلندا وإسبانيا انسحابها من المسابقة في حال مشاركة إسرائيل في يوروفيجن ٢٠٢٦. يُظهر هذا القرار الرمزي أن المجالين الثقافي والفني لا ينفصلان عن الأخلاق والعدالة الإنسانية. المهرجان، الذي جسّد لسنوات الوحدة الأوروبية في الموسيقى، أصبح اليوم ساحة اختبار للضمير الجماعي. الرسالة واضحة: لا يمكن لأي مهرجان تجاهل العنف والإبادة الجماعية مع الحفاظ على شرعيته.
صرحت هيئة الإذاعة الوطنية الأيرلندية في بيان لها بأن استمرار مشاركة إسرائيل في المسابقة "غير مقبول بالنظر إلى الخسائر البشرية الفادحة في غزة". وأضافت الهيئة أن عددًا من الأعضاء أعربوا عن مخاوفهم بشأن مشاركة إسرائيل في مسابقة هذا العام خلال اجتماع لاتحاد البث الأوروبي (EBU)، الجهة المنظمة لمسابقة يوروفيجن.
كما أصدرت هيئة الإذاعة الوطنية الهولندية "أفروتروس" بيانًا لاذعًا، جاء فيه: "في ظل الظروف الحالية، وبالنظر إلى المعاناة الإنسانية الشديدة والمستمرة في غزة، لم يعد من الممكن تبرير مشاركة إسرائيل في المسابقة". كما أعربت الهيئة عن قلقها العميق إزاء الانتهاكات الجسيمة لحرية الإعلام، بما في ذلك الحجب المتعمد للصحفيين الدوليين المستقلين ومقتل عدد كبير منهم.
جاءت هذه التصريحات بعد تصريحات وزير الثقافة الإسباني إرنستو أورتاسون، الذي حذّر من أن بلاده قد تنسحب من مسابقة يوروفيجن 2026. وقال: "لا يمكننا بأي حال من الأحوال تطبيع وجود إسرائيل في مثل هذه الأحداث، وكأن شيئًا لم يحدث". قال وزير الثقافة الإسباني أيضًا: "إن انتقاد ما يحدث في غزة ليس معاداة للسامية، بل إدانة للإبادة الجماعية. إسرائيل دولة إبادة جماعية".
لا يقتصر الضغط على مسابقة يوروفيجن على أيرلندا وهولندا وإسبانيا، إذ صرّح رئيس هيئة الإذاعة الوطنية السلوفينية بأن بلاده ستنسحب على الأرجح من المسابقة إذا شاركت إسرائيل. وكانت الهيئة قد دعت سابقًا إلى طرد إسرائيل من مسابقة يوروفيجن 2025، وهو مطلب ردده أكثر من 70 فنانًا سابقًا في رسالة مفتوحة. حتى المغني النمساوي جيه جيه، الفائز بالمسابقة العام الماضي، دعا إلى استبعاد إسرائيل من مسابقة يوروفيجن 2026.
الجامعات والعلوم: الضمير الأخلاقي في مواجهة الإبادة الجماعية
بعد الكشف عن تواطؤ بعض المؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية في جرائم تل أبيب في غزة، برزت موجة من المقاطعة وتعليق التعاون مع الجامعات الإسرائيلية حول العالم. وقد خلقت وفاة أكثر من 63 ألف شخص، معظمهم من المدنيين، في غزة حافزًا أخلاقيًا للجامعات والباحثين لتجنب أي تعاون مع المؤسسات المتواطئة مع إسرائيل.
ومن الأمثلة البارزة على هذه المقاطعات الجامعة الفيدرالية في سيارا في البرازيل، التي ألغت اجتماعًا مشتركًا للابتكار مع جامعة إسرائيلية، وكلية ترينيتي في دبلن في أيرلندا، وجامعة أمستردام، التي علقت برنامجًا للتبادل الطلابي مع الجامعة العبرية في القدس. كما أن الجمعية الأوروبية لعلماء الأنثروبولوجيا الاجتماعية لا تتعاون مع المؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية، وقد شجعت أعضاءها على أن يحذوا حذوها.
أكدت ستيفاني آدم، من الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل، في مقابلة مع صحيفة الغارديان: "المؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية متواطئة مع نظام الاحتلال، والفصل العنصري الاستعماري الاستيطاني، والإبادة الجماعية. تقع على عاتق الجامعات مسؤولية أخلاقية وقانونية لإنهاء علاقاتها مع هذه المؤسسات".
تُظهر هذه الإجراءات، إلى جانب مقاطعة الأفلام والموسيقى، أن العلم لا يمكن أن يعمل في فراغ أخلاقي، وأن الجامعات والباحثين مسؤولون أخلاقياً عن الجرائم ضد الإنسانية. وباعتبارها أداة ضغط مدني، فإن المقاطعة الأكاديمية، مع الحفاظ على الاستقلال الأكاديمي، تُرسل رسالة واضحة إلى العالم: التعاون مع المؤسسات المتواطئة في القمع هو في الواقع انسجام مع القمع والإبادة الجماعية، والصمت الأكاديمي بحد ذاته جزء من هذا التواطؤ.
رسائل وأبعاد عالمية
على الرغم من اختلاف مجالات السينما والموسيقى والأوساط الأكاديمية، إلا أن لها رسالة واحدة مشتركة: لقد استيقظ الضمير العالمي. من الفنانين والمغنين إلى أساتذة الجامعات، يُرسل الجميع رسالة واحدة في مجالات متعددة. على الصعيد الأخلاقي، لم يعد الصمت في وجه الإبادة الجماعية مقبولاً. على الصعيد السياسي، ازداد الضغط المدني على إسرائيل، وتعرضت شرعيتها على الساحة العالمية للطعن. أما على الصعيد الرمزي، فكل جامعة، وكل مخرج سينمائي، وكل موسيقي يقاطعها، يصبح جزءًا من سردية عالمية للعدالة والإنسانية.
تجاوزت مقاطعة إسرائيل مجرد رد فعل إقليمي، وأصبحت الآن حركة عالمية ذات رسالة أخلاقية وسياسية وثقافية. اجتمع الفن والموسيقى والعلم ليُظهرا أن كرامة الإنسان فوق أي قوة سياسية أو اقتصادية. يواجه العالم اليوم خيارًا أخلاقيًا: الصمت أو الفعل. كل جامعة، وكل مخرج سينمائي، وكل موسيقي، بموقفه الخاص، يُحكم على التاريخ، والضمير الإنساني يكتب فصلًا جديدًا من العدالة العالمية.
نورنيوز