نورنيوز - على مدى العقدين الماضيين، أثبتت الجمهورية الإسلامية الإيرانية مرارًا وتكرارًا أنها تعترف بمبدأ التفاوض كإحدى الأدوات الاستراتيجية لحل الأزمات في سياستها الخارجية. من مفاوضات سعد آباد في عهد حكومة الإصلاح إلى الاتفاق الشامل بشأن خطة العمل الشاملة المشتركة في عهد حكومة الاعتدال، كانت إيران دائمًا مستعدة للتفاوض مع الأطراف الغربية. الآن، وبعد حرب الاثني عشر يومًا، تُشير مواقف مسؤولين مثل مسعود بيزكيان، وعلي لاريجاني، ومحمد رضا عارف، ومؤخرًا عباس عراقجي، إلى أن إيران لا تُعارض مبدأ المفاوضات، بل تُفاوض على محتواها ونطاقها وإطارها وضماناتها.
*موقف إيران المبدئي: التفاوض، لا الاستسلام
من وجهة نظر الجمهورية الإسلامية، التفاوض أداة عقلانية، وليس علامة ضعف. في تصريحاته الأخيرة خلال اجتماع دبلوماسي مع السفراء والقائمين بالأعمال في طهران، أكد عراقجي بوضوح أن إيران كانت ولا تزال مستعدة للتفاوض بشأن برنامجها النووي. لكن هذه المفاوضات لا ينبغي أن تكون غطاءً للعدوان وانتهاكًا للقانون الدولي. وكما حذّر، "هاجمت إسرائيل، برفقة الولايات المتحدة، إيران في خضم المفاوضات"، وهذا يُشير إلى خيانة لمبدأ الدبلوماسية.
في الواقع، إن نظرة إيران للمفاوضات، خلافًا لتصورات الإعلام الغربي، هي وجهة نظر مشروعة وعقلانية ومشروطة: نعم، مفاوضات، ولكن بشرط ألا تنتهي بالخداع والهجوم. ووفقًا لعراقجي، لدى إيران شروط واضحة ومنطقية للعودة إلى طاولة المفاوضات، والتي يمكن تصنيفها إلى عدة محاور رئيسية:
1. ضمان أمن المفاوضات وتجنب العمل العسكري المتزامن: تريد إيران ألا تجري المفاوضات في حقل ألغام. إن الهجوم المتزامن مع المفاوضات يُفقد مبدأ الحوار معناه. فبدون "ضمان وقف الهجمات أو السلوك التخريبي، لا شرعية لأي طاولة مفاوضات".
2. التركيز على القضية النووية فقط ورفض الخوض في مجالات أخرى: أعلنت إيران أن المفاوضات يجب أن تقتصر على المجال النووي ورفع العقوبات. أما القضايا الصاروخية والدفاعية والإقليمية فهي غير مطروحة إطلاقًا على جدول الأعمال. بعد الحرب الأخيرة، أثبتت إيران أنها "لا تعتبر قدراتها الدفاعية أداةً للمساومة، بل خطًا أحمر وطنيًا".
3. الاعتراف بحق التخصيب: أكد عراقجي مجددًا أنه "لن يُقبل أي اتفاق لا يُحترم فيه حق إيران في التخصيب". هذا الحق ليس جزءًا من الاستقلال العلمي للبلاد فحسب، بل هو أيضًا نتيجة صراعات دامية في العقود الأخيرة.
4. التعاون المشروط مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية: أعلنت إيران أنه نظرًا للأضرار التي سببها الهجوم الإسرائيلي، فإن "أي تعاون مع الوكالة لن يكون إلا قائمًا على المصالح الوطنية وقرار كل حالة على حدة من قِبل المجلس الأعلى للأمن القومي". هذا القرار رسالة واضحة للوكالة لاستعادة حيادها.
*التجربة الدبلوماسية التاريخية لإيران
لقد خاضت جمهورية إيران الإسلامية تجربة ناجحة في التفاوض في إطار خطة العمل الشاملة المشتركة. واستذكر عراقجي أنه في عام 2015، ومن خلال محادثات جادة وعقلانية، اقتنع المجتمع الدولي بسلمية البرنامج النووي الإيراني. إلا أن هذا الإنجاز واجه تحديًا أيضًا بانسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق وعودة العقوبات. لذلك، تعلمت إيران من الماضي، وتعتبر أن الشرط الأول لأي مفاوضات جديدة هو "ضمان التنفيذ المستدام للاتفاق". فبدون هذا الضمان، تُعتبر العودة إلى طاولة المفاوضات تكرارًا مكلفًا لتجربة سابقة.
من أهم نقاط خطاب عراقجي التأكيد على أن "برنامج إيران النووي لا حل عسكريًا له". وبكلماته، إذا كان الهدف هو تدمير هذا البرنامج بالقصف، فهذا ليس سوى وهم، لأن التكنولوجيا لا يمكن قصفها ولا القضاء عليها. في الواقع، ذكّرت إيران العالم بأن "نهاية كل حرب هي التفاوض"، ولكن مفاوضات تنبع من قلب يسوده الاحترام المتبادل والمساواة في الحقوق وعدم تكرار العدوان العسكري، وليست مجرد استعراض للحوار أو أداة لمزيد من الضغط.
في ختام كلمته، أكد عراقجي على تمسك إيران بالمبادئ الإسلامية في رفض الأسلحة النووية، قائلاً: "إذا رُكبت الأطر والشروط العقلانية، فإن التفاوض يبقى ممكناً ونافعاً". بمعنى آخر، إيران لا ترفض التفاوض ولا تخشى منه، بل تريد التفاوض في إطار الكرامة والحكمة والمصلحة؛ وهو الثلاثي الذي لطالما شكل أساس السياسة الخارجية الإيرانية.
يُظهر الموقف الرسمي الإيراني، كما جاء في كلمات عراقجي، والذي سبق أن ردده بيزيزكيان وعارف ولاريجاني وقاليباف، أن المقاومة والتفاوض لا يتعارضان، بل "التفاوض العقلاني هو استمرار للميدان في لغة السياسة". إذا قبلت الأطراف المتنازعة مبدأ "التعايش مع إيران مستقلة وصامدة"، فإن الحوار ممكن. أما إذا اعتبروا الحوار وسيلة للفرض والإضعاف، فإن إيران ستنسحب منه بحق.
بعد حرب مفتوحة، أصبحت الجمهورية الإسلامية الإيرانية في وضع يسمح لها، بلغة القوة والعقلانية، "بتحويل استراتيجيتها الدفاعية إلى استراتيجية حوار". لكن هذا لن يتسنى إلا عندما يتخلى الطرف الآخر أيضًا عن سياسة العقوبات والهجوم، ويتحدث صراحةً عن الحوار في إطار الاحترام المتبادل، لا بلغة القنابل والخداع.
نورنيوز