يبدو ان نجاعة التجربة الايرانية، في الجمع بين "الديمقراطية" و"الدين"، و بين "الجمهورية" و "الاسلامية"، و بين "حاكمية الله" و"حاكمية الشعب"، اثارت حفيظة الغرب، لانها وضعت نموذجه الليبرالي في الحكم، في قفص الاتهام، فانبرى يوجه الاتهامات للجمهورية الاسلامية في ايران، بهدف التقليل من وهج نجاحها، والحيلولة بالتالي دون انتقال تجربتها الى باقي الدول الاسلامية، وفي مقدمة هذه الاتهامات، ان كفة "الجمهورية" هي الارجح في ايران على كفة "الإسلامية"، وان "الاصل" في النظام في ايران، هو "الاسلامية"، وما "الجمهورية"، الا غطاء باهت لـ"الحكم الديني".
ليس هناك من شك ان نظام الجمهورية الإسلامية في ايران، هو نظام متميز عن الأنظمة الاخرى، سواء كان دينيا او ديمقراطيا، فـ"السيادة الشعبية الدينية"، التي تم استنباطها من نظرية "ولاية الفقية"، التي طرحها الامام الخميني (رض)، يرفع التناقض المصطنع بين "حاكمية الله" و "حاكمية الشعب"، اعتمادا على اساس ثابت في الاسلام، وهو اساس "العقلانية" او "التعقل"، فطاعة الله لن تتحقق الا بالاختيار والانتخاب، لذلك لا يوجد مجتمع ونظام اسلامي يحكمه مستبد، فالمجتمع الذي لا يُسمح فيه للناس بالتفكير والتصرف، هو مجتمع غير اسلامي، فـ"السيادة الشعبية" تعني الاهتمام بالناس، وهذا الاهتمام يتأتى من اهتمام الإسلام بكرامة الإنسان، واي فعل ينتهك كرامة الإنسان، هو حرام، لذلك يعتبر سلب إرادة الإنسان، مصداق واضح لانتهاك كرامة الإنسان، وهذا هو الاساس الذي تقوم عليه "السيادة الشعبية الدينية".
انطلاقا من هذه المفاهيم، فان الولاية تكون مقبولة، عندما يكون الولي عادلا وتقيا ويعمل على الحفاظ على كرامة الانسان، واي تعد على هذه الكرامة الانسانية هو تعد على حدود الله. وفي المقابل يمنع الاسلام الانسان من ارتكاب الاعمال التي تخالف الفطرة الانسانية، لانه بذلك ينتقص من كرامته التي تعمل "السيادة الشعبية الدينية" على صيانتها، فهو بهذه الاعمال يبتعد عن التعقل ويتصرف بجهل، وهو ما لا يسمح به الاسلام، وعدم السماح هذا لا يعني تقييد حرية الانسان "العاقل"، بل تقييد لجهله. ومثل هذا الجهل، رأيناه وبشكل مقزز في الغرب، عندما شرعن الشذوذ الجنسي، و زواج المحارم ، و مسخ الانسان، وهدم الاسرة، ونسف كل القيم الاخلاقية والانسانية، بذريعة الحرية.
ان الغرب لم يكن وفيا حتى لمبادئه التي اقام الدنيا بسببها ولم يقعدها، مثل الديمقراطية والعدالة وحقوق الانسان، عندما اصطف الى جانب الانظمة الدكتاتورية والمستبدة والقبلية في العالم، وعندما دعم بكل امكانياته، الكيان الاسرائيلي الارهابي الغاصب، في حرب الابادة التي يشنها هذه الايام ضد الشعب الفلسطيني الاعزل، فمثل هذه الممارسات لا يمكن ان تكتسي طابعا شرعيا، لانها منافية للفطرة والعدالة الانسانية، في ظل نظام "السيادة الشعبية الدينية"، ولا يمكن وضعها في خانة الخيارات والحريات، كما في الانظمة الليبرالية.
تتجلى جميع المبادىء التي تفصل بين الانظمة الديمقراطية وبين الانظمة الدكتاتورية، بأبهى صورها ، في نظام "السيادة الشعبية الدينية" الذي تعتمده الجمهورية الاسلامية في ايران، وفي مقدمته، الدستور، و الانتخابات، وتداول السلطة، الفصل بين السلطات، و حرية الاعلام، و حقوق الانسان، حقوق الاقليات، وهي مبادىء مارسها الشعب الايراني على مدى 45 عاما، حيث شارك في اكثر من 40 عملية انتخاب، بمعدل انتخاب واحد كل عام. تراوحت بين انتخابات مجلس الخبراء القيادة الذي يختار الولي الفقيه، وانتخابات مجلس الشورى الاسلامي الذي يعتبر السلطة التشريعية، وانتخابات المجالس المحلية، وقبل كل هذا وذاك التصويت على نظام الجمهورية الاسلامية، والتصويت على الدستور، وبذلك تستمد كل المؤسسات في الجمهورية الاسلامية، ولا استثناء في ذلك، شرعيتها من الشعب.
المعروف في منطق "الثورات" التي عرفتها الشعوب انها تنتهي عادة بتأسيس انظمة دكتاتورية تحكم بقرارات تصدرها مجالس قيادات هذه "الثورات" او في افضل الحالات تنتهي بدساتير مؤقتة، الا ان الثورة الإسلامية في ايران، لم تكتف بكتابة الدستور، بل دعت الى اجراء استفتاء على طبيعة النظام، صوت فيه حوالي 98% من الايرانيين على تغيير النظام الملكي الى الجمهوري.
الثورة الاسلامية التي اقامت نظام "السيادة الشعبية الدينية"، نقلت ايران من بلد متخلف وتابع لامريكا الى بلد متقدم حر سيد مهاب الجانب، بعد ان أحيت الثورة الهوية الاسلامية للانسان الايراني، التي حاول النظام الملكي طمسها، وهي عملية احياء لم تنحصر في حدود ايران الجغرافية، بل تجاوزتها الى بقاع واسعة من منطقة غرب اسيا، كما انها احيت القضية الفلسطينية، التي كادت ان تُدفن تحت ركام مخططات ومكائد امريكا، وما نشهده اليوم، وبالتحديد منذ معركة "طوفان الاقصى"، واشتعال الجبهات، من اليمن الى العراق الى سوريا الى لبنان، نصرة لفلسطين، الا بعض تجليات هذا الاحياء الاسلامي العظيم.
العالم