ثمة جهات يهودية عديدة تطالب بالفصل بين الديانة اليهودية والصهيونية، ولا سيما بين رجال الدين اليهود، وخاصة بعد إصرار رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو على تسمية "إسرائيل" الدولة اليهودية، للتعمية والخلط بين الكيان السياسي، والحالة الدينية في خطوة لكسب تأييد الطرفين، فثمة حاخامات يؤيدون نتنياهو في طرحه وينادون بالصهيونية، لذا شرّعوا الحرب على غزة، ودعوا إلى إبادة الفلسطينيين، وفي المقابل، هناك حاخامات يهود حول العالم يرفضون وجود "إسرائيل" من الأساس، ويطالبونها بالاعتذار من الفلسطينيين وإعادتهم إلى أرضهم، وبالتالي هم حتماً ضد الحرب العدوانية على غزة، وقد شارك هؤلاء في المظاهرات العالمية التي تندّد بهذه الحرب.
تعدّ المنظمة اليهودية الدولية المناهضة للصهيونية التي تأسست عام 1935، والموجودة في القدس ولندن ونيويورك ومونتريال وعدد من مدن العالم، من أبرز الحركات اليهودية العالمية التي تقف إلى جانب الفلسطينيين في حربهم مع كيان الاحتلال وتطالب بوقف الحرب على غزة، وهي موجودة بفعالية في كل التظاهرات، وتحمل شعار "يهود موحّدون ضد الصهيونية"، كما ترفض الصهيونية، وتعارض وجود دولة "إسرائيل"، وتنادي بإعادة الأرض للفلسطينيين، وأنه يُمنع أن يكون لليهود دولة خاصة بهم حتى مجيء المسيح، وترى هذه الحركة أن التوراة لا تسمح بقتل الأبرياء.
عميد المنظمة في بريطانيا الحاخام حاييم سوفير، أدان المذبحة التي تحصل في غزة، وطالب بإرسال قوة دولية لحماية الأبرياء الفلسطينيين، وأن يتم تنفيذ القرار 194 الذي ينص على حق عودة الفلسطينيين إلى أرضهم، مشيراً إلى أن التوراة لا تسمح باحتلال فلسطين والشعب الفلسطيني، وأن الدولة الصهيونية جزء من أمريكا.
أما الحاخام دوفيد فلدمان، الناطق باسم المنظمة في كندا، عدّ ما يجري اليوم في غزة "ليس مخالفًا للقوانين الدولية فقط، بل للقوانين اليهودية، وأن "إسرائيل" لا تمثّل بأي حال الدين اليهودي ولا الشعب اليهودي"، مضيفاً إن "نتنياهو يصرّ على أن يسمّي "إسرائيل" الدولة اليهودية، لماذا ليس الدولة الصهيونية؟ إنهم يريدونكم أن تسمّوها الدولة اليهودية لكي تظهر أنها تمثّل اليهودي، وبالتالي فإذا انتقدها أحد فإنه ينتقد اليهود، أي هو معادٍ للسامية".
معاداة السامية المصطلح المراوغ
دفع العديد من اليهود المناصرين للحق الفلسطيني، وغيرهم ممن يشاركونهم موقفهم ثمن مواقفهم، ولا سيما عندما يتم إلصاق مصطلح معاداة السامية بهذه المواقف، منعاً لانتقاد كيان الاحتلال، فمنذ 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، فُصل العديد من الأسماء المعروفة في العالم من وظائفهم بسبب انتقادهم الحرب الإسرائيلية على غزة بتهمة "معاداة السامية"، حتى إن منهم من اتهم بالخيانة، وهُدِدَ آخرون بالقتل.
ولا تزال قضية انتقاد "إسرائيل" من منظور معاداة السامية محط نقاش حاد في العالم، ولا سيما في أوروبا، ففي فرنسا يشتعل هذا النقاش في الأوساط اليهودية منذ سنوات، وقد تناول العديد من الكتاب والمثقفين اليهود موضوع معاداة السامية، ولا سيما في الحالة المفصلية التي تنشأ بين معاداة الفكر الديني، وانتقاد السياسة الإجرامية للكيان الصهيوني.
ويشير مؤلفو كتاب "معاداة السامية.. المساومة غير المقبولة، إسرائيل-فلسطين.. شأن فرنسي؟" لمجموعة من المؤلفين اليهود المنشور في عام 2003، إلى الذعر من المساندة المتنامية للحكومة الإسرائيلية من طرف قسم من الطائفة اليهودية الفرنسية، وممثليها الرسميين الذين أعلنوا أنفسهم كذلك والعديد من المثقفين الفرنسيين اليهود وغير اليهود، واستخدام كل هؤلاء لموضوع "صعود اللاسامية" أو "اليهودوفوبية"، لمنع أي انتقاد للسياسة العسكرية والاستعمارية لحكومة أرييل شارون منذ نهاية 2000.
ويقول "هيوغ جالون" في الكتاب: إن المشكلة اليوم هي في السعي الحثيث لاعتبار كل انتقاد لـ "إسرائيل" لاسامية جديدة، فالنشطاء اليساريون أساساَ الذين يناضلون من أجل سلام عادل في الشرق الأوسط يواجهون منطق شبهة ومساومة فظة بمعاداة السامية، مشيراً إلى أن هناك تقليدا سائدا في الأوساط اليهودية يكمن في عدم انتقاد "إسرائيل" من قبل الذين يعيشون خارجها، إلى درجة أن كبار المدافعين عن ذاكرة المحرقة مثل أيلي فيزل يعلق نضاله من أجل حقوق الإنسان عندما يتعلق الأمر بالفلسطينيين حتى لا ينتقد "إسرائيل".
وقد عبّر كُتّاب يهود عن رفضهم للخطاب السائد الذي يعِدّ أي انتقاد لـ "إسرائيل" معاداة للسامية، في رسالة مفتوحة للمجتمع الدولي نُشرت في المجلة الأدبية الإلكترونية (إن+1) ووقّع عليها آلاف الفنانين حول العالم، إذ أشار الكتّاب اليهود فيها إلى أن مفهوم معاداة السامية استُخدم حتى الآن "لحماية إسرائيل من المساءلة، ولإخفاء حقيقة الاحتلال، وإنكار السيادة الفلسطينية"، وأن المفهوم نفسه يستخدم اليوم "لتسويغ قصف إسرائيل لغزة، وإسكات الانتقادات داخل المجتمع الدولي"، واصفين الأيديولوجيا الصهيونية بأنها "استغلال لمعاناة اليهود من أجل هضم حقوق الشعب الفلسطيني"، ومشددين على أن "معاداة إسرائيل لا تعني معاداة السامية".
وأضاف الكتاب اليهود في الرسالة "إننا ندافع عن كرامة وسيادة الشعب الفلسطيني، من خلال العِبر التي استخلصناها من تاريخنا المرير في مواجهة معاداة السامية"، مشيرين إلى أن الحكومة الإسرائيلية تروّج بين الداخل والخارج لدعاية مفادها بأن "كفاح الفلسطينيين غير موجّه من أجل الحصول على حقوق في الأرض والسيادة، بل هو موجّه ضد اليهود".
ووجهت مجموعات من الطلاب اليهود والإسرائيليين في العديد من الجامعات الأمريكية، والمنظمات اليهودية والإسرائيلية في جميع أنحاء الولايات المتحدة، انتقادات لجلسة استماع بمجلس النواب تبحث في الأسباب وراء السماح بتنظيم وخروج المظاهرات المعادية للسامية في حرم الجامعات، إذ وقعت 42 مجموعة ومنظمة يهودية في الجامعات الأمريكية، بيانا ذكرت فيه أنه عندما تستخدم الجامعات والممثلون السياسيون بشكل خاطئ تهمة معاداة السامية الخطيرة كأداة لإسكات أي انتقادات للحكومة الإسرائيلية والدعوات لتحرير الفلسطينيين، فإنهم يخلطون الأمور وكذلك يزيدون من خطورة الحوادث المتعلقة بمعادة السامية".
وفي بريطانيا قال روبرت بيتسون، المحرر السياسي لشبكة “آي تي في” التلفزيونية البريطانية في تدوينة له على حسابه على “إكس”: “باعتباري يهودياً، أصبحت أشعر بقلق متزايد من أن تهمة معاداة السامية يتم توجيهها لإسكات النقاش المشروع والمهم، وإن معاداة السامية آخذة في الارتفاع، ولكن هناك أيضًا ارتفاع في الاستخدام عديم الضمير لهذا المصطلح لإسكات الأسئلة المعقولة حول تصرفات الحكومة الإسرائيلية في غزة”.
وقد أرفق بيتسون تدوينته برابط مقال نشره أحد زعماء الجالية اليهودية "بيرني شتاينبرغ" في مجلة “هارفارد القرمزية”، بعنوان "من أجل سلامة اليهود والفلسطينيين، توقفوا عن استخدام معاداة السامية كسلاح”، وتحدث فيه عن “المكارثية المتزايدة” ضد من ينتقد الحكومة الإسرائيلية، إذ يقول: "خلال مسيرتي المهنية الطويلة كمعلم وزعيم جالية يهودي، ومع الاستفادة من الإدراك المتأخر، أشعر بأنني مضطر للتحدث عما أعتبره اتجاهًا مزعجًا يجتاح حرمنا الجامعي: استعمال معاداة السامية كسلاح من قبل قوى قوية تسعى إلى تخويف وإسكات شرعية انتقاد إسرائيل والسياسة الأمريكية تجاه إسرائيل”.
وأضاف شتاينبرغ إنني أشعر بالقلق بشكل خاص إزاء التكتيك المكارثي الحالي المتمثل في خلق ذعر من معاداة السامية، والذي، في الواقع، يتم تحويل القضية الحقيقية للغاية المتعلقة بسلامة اليهود إلى بيدق في لعبة سياسية لتغطية سياسات "إسرائيل" التي لا تحظى بشعبية كبيرة، مشيراً إلى أن “ما يجعل هذا الاتجاه مثيرًا للقلق بشكل خاص هو الفارق في القوة: المانحون المليارديرات وذوو النفوذ السياسي، وغير اليهود واليهود على حدٍ سواء من جهة، يستهدفون بشكل غير متناسب الأشخاص من الفئات السكانية الضعيفة من جهة أخرى.
ودعا شتاينبرغ الطلبة اليهود إلى أن يكونوا “منتقدين لإسرائيل بجرأة، إذ لفت إلى أنه يعرف كيف تبدو معاداة السامية، وقد كان بنفسه ضحية معاداة السامية، مبيناً أنه ليس من معاداة السامية المطالبة بالعدالة لجميع الفلسطينيين الذين يعيشون في أراضي أجدادهم، فالناشطون الذين يستخدمون هذه اللغة وسياسة التحرر هم أناس مخلصون، قضيتهم هي حركة مشروعة ومهمة معارضة للمعاملة الوحشية للفلسطينيين المستمرة منذ 75 عامًا.
وأشار إلى أنه “إذا كانت قضية إسرائيل عادلة، فلتتحدث ببلاغة دفاعاً عن نفسها، ومن المثير للاهتمام أن بعض مؤيدي إسرائيل يبذلون جهودًا غير عادية لإسكات الجانب الآخر تمامًا، وإذا كانت قضية الدفاع عن إسرائيل تتطلب وصم منتقديها بمعاداة السامية، فهي بالفعل تعترف بالهزيمة.”
يبدو أن معاداة السامية لن تستطيع خدمة الأيديولوجيا الصهيونية لفترة طويلة، فقد بدأ الرأي العام بتوجيه النقد اللاذع لكيان الاحتلال، وأخذت أصوات عديدة تتعالى حتى من الأوساط اليهودية، تحمل النقد الشديد والجريء لهذا الكيان، وتقف منه موقف الرافض دون أن تتبنى أيا من سياساته، ولا سيما في الحرب الأخيرة على غزة، والتي ستغير وجهة نظر الكثيرين حول العالم تجاه الكيان.
وكالات