نورنيوز : في التاريخ السياسي للولايات المتحدة، ورغم وجود همسات بين الحين والآخر حول تجاوز نظام الحزبين، إلا أن البنية القوية للحزبين الديمقراطي والجمهوري كانت دائمًا قادرة على عرقلة الطريق أمام لاعبين جدد. ومع ذلك، فإن الأحداث الأخيرة تُشير إلى وجود صدع في هذه الآلية التقليدية. بإطلاقه حزبًا جديدًا يُسمى "حزب أمريكا"، أعلن إيلون ماسك، الملياردير الشهير في عالم التكنولوجيا، أنه لن يكون مجرد متفرج أو مستشار للسلطة السياسية، بل ينوي أن يصبح أحد أهم صانعي مستقبل السياسة الأمريكية.
ما الذي يسعى إليه ماسك؟
للوهلة الأولى، قد يُنظر إلى هذه الخطوة على أنها رد فعل شخصي على خلاف ماسك الأخير مع دونالد ترامب، وهو توتر تصاعد في الأشهر الأخيرة وأدى إلى قطيعة تامة بين الشخصيتين القويتين. قبل فترة وجيزة، كان ماسك مؤيدًا غير رسمي لترامب، ومتحالفًا مع إدارته في بعض السياسات الاقتصادية. ولكن في النصف الثاني من عام 2025، وصلت العلاقة بينهما إلى نقطة حرجة مع خلاف حول فواتير الضرائب الباهظة. انتقد ماسك مرارًا ما وصفه بـ"مشروع قانون ترامب الضخم"، واصفًا إياه بأنه عامل في تفاقم انعدام الانضباط المالي والزيادة المفرطة في الدين الوطني.
سرعان ما اتخذ هذا الخلاف الفني منحىً سياسيًا. اتهم ترامب ماسك بـ"خيانة الحركة المحافظة"، فردّ ماسك واصفًا ترامب بأنه "زعيم هيكل مُعطّل مُثقل بالشعارات". وأخيرًا، في يوليو 2025، أصدر ماسك بيانًا رسميًا يُعلن فيه تأسيس "حزب أمريكا". حزبٌ يقول إنه برز ليكون صوت "جيل جديد من الناخبين المستقلين، المُلِمّين بالتكنولوجيا، والمُتطلعين إلى المستقبل".
ولكن هل هذا مجرد رد فعل شخصي، أم مؤشر على تحوّل جاد في السياسة الأمريكية؟ الإجابة ليست بسيطة. فعلى عكس العديد من الشخصيات المستقلة في التاريخ الأمريكي، يتمتع ماسك بثلاث سمات مُميّزة: ثروة طائلة، ونفوذ إعلامي واسع، وعلاقات مباشرة مع الطبقة المتوسطة المُلِمّة بالتكنولوجيا. يمتلك ماسك شبكة التواصل الاجتماعي "إكس"، ولديه عشرات الملايين من المتابعين، ويمكنه التأثير على الرأي العام دون الاعتماد على وسائل الإعلام الرئيسية. بالإضافة إلى ذلك، فإن دعم بعض الشخصيات السياسية والمالية مثل مارك كوبان وأنتوني سكاراموتشي يمنح حزبه المُؤسّس حديثًا مصداقيةً وقوةً تنظيمية.
يُظهر برنامج حزبه أيضًا توجهاتٍ مختلفة: التركيز على ضبط الدين الحكومي، وتقليص البيروقراطية، واستخدام التكنولوجيا في الحوكمة، ومعالجة التحدي الديموغرافي، وجعل الحكومة أكثر شفافية. لاقت هذه الشعارات صدىً إيجابيًا لدى شريحةٍ من الناخبين الشباب المستقلين، وخاصةً في الولايات الغربية والجنوبية. لا ينوي ماسك، بحكمة، الترشح للرئاسة مباشرةً - وهو أمرٌ مستحيلٌ نظرًا لمسقط رأسه - بل إن هدفه الأساسي هو الفوز ببعض المقاعد الرئيسية في انتخابات الكونجرس لعام 2026 والتأثير بشكل غير مباشر على الإدارة القادمة.
ما هي العقبات التي تواجه ماسك؟
مع ذلك، يواجه العديد من العقبات. فالهيكل السياسي الأمريكي محافظٌ بشدة. يتطلب الحصول على حق التصويت في جميع الولايات، والدخول في المناظرات الرسمية، واكتساب الشرعية العامة وقتًا وخبرة وهيكلًا حزبيًا قويًا. إضافةً إلى ذلك، فإن شخصية ماسك المتناقضة أحيانًا وسلوكه غير المتوقع دفعا البعض في المجتمع السياسي الأمريكي إلى الشك في استدامة مشروعه السياسي. عليه أن يُثبت قدرته على التحول من رأسمالي مثير للجدل إلى فاعلٍ مستقر ومسؤول على الساحة الوطنية. في النهاية، يبقى السؤال الأهم: هل يستطيع إيلون ماسك تحدي نظام الحزبين الأمريكي؟ يُظهر التاريخ صعوبة هذا الأمر. لكن الفارق هذه المرة يكمن في السياق. تواجه الولايات المتحدة اليوم أزمة انعدام ثقة عامة، وإرهاقًا سياسيًا، وانقسامًا بين الأجيال، وضعفًا في القيادة. إذا استطاع ماسك تحويل هذه الأزمة إلى فرصة، فربما يستطيع حزبه - حتى دون فوز انتخابي - أن يُجبر على إعادة النظر في العديد من مبادئ السياسة الأمريكية.
إن تأسيس إيلون ماسك لحزب أمريكا ليس مجرد حيلة دعائية، بل هو علامة على عصر جديد، عصر لم يعد فيه التكنوقراط والرأسماليون يرغبون في أن يكونوا مجرد رعاة للانتخابات، بل يرون أنفسهم قادةً جديرين. فهل أمريكا مستعدة لاحتضان هذا التغيير؟