نورنيوز: في عالمٍ فقدت فيه الكلمات معانيها، لم يعد السلام سلامًا. عندما ذهب رئيس وزراء النظام الصهيوني المتعطش للدماء للقاء رئيس الولايات المتحدة الوهمي، على مائدة العشاء، قدّم لدونالد ترامب مخطوطة، وقال: "أريد أن أقدم لك رسالة أرسلتها إلى لجنة نوبل للسلام. هذه الرسالة هي ترشيحك لجائزة نوبل للسلام".
*رسالة سلام مخزية
قدّم بنيامين نتنياهو ترشيح جائزة نوبل للسلام لترامب بينما أصدرت المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي مذكرة توقيف بحقه في نوفمبر 2014 بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية واستخدام الجوع (تجويع سكان غزة) كسلاح! متلقي الرسالة هو أيضًا شخص أمر بالاغتيالات والعقوبات والدعم المطلق لاحتلال الدول خلال مسيرته السياسية. الآن، مع هذه السجلات الغريبة لمُرشّح ومتلقي الترشيح، لا ينبغي للمرء أن يتساءل أين نحن في التاريخ، وعلى أي مستوى من الأخلاق الدولية؟ أليست هذه اللحظة لحظة انهيار سياسي كامل؟
نتنياهو، الذي، بالإضافة إلى... كما أقرت منظمة العفو الدولية، التي أقرت بضرورة اعتقاله بسبب تصرفات الجيش تحت قيادته في قطاع غزة، بأنه يقف في موقف استهزاء بالقانون الدولي بهذا الإجراء. والأمر الأكثر إثارة للغضب هو أن رئيس وزراء النظام الصهيوني رشح شخصًا لجائزة نوبل للسلام، والذي، بنقله السفارة الأمريكية إلى القدس، ودعمه المطلق لبناء المستوطنات في الأراضي المحتلة، وإلغاءه الاتفاق النووي، وتشديده العقوبات اللاإنسانية على الشعب الإيراني، وانتهاكه الصارخ لحقوق الفلسطينيين، أصبح هو نفسه أحد أكثر الشخصيات تأثيرًا في تدمير السلام في الشرق الأوسط.
هذه ليست مزحة لاذعة، بل هي بيان رمزي لنهاية كل المفاهيم التي تأملتها البشرية يومًا: العدالة، والمسؤولية، والكرامة الإنسانية، والسلام. أليست هذه هي جائزة نوبل للسلام نفسها التي مُنحت عام ١٩٧٣ لهنري كيسنجر، مهندس الانقلابات الدموية في آسيا وأمريكا اللاتينية؟ اليوم، انضم ترامب إلى صفوف السياسيين الذين لديهم فهم غير منطقي لمفهوم السلام. هذه المرة، بالطبع، ليس باختيار لجنة نوبل النرويجية، بل بخط يد رئيس الوزراء الذي يقصف المستشفيات والمدارس. هذه إهانة للسلام، وإهانة لضحايا الحرب الأبرياء، واستهزاء بالذاكرة التاريخية الإنسانية.
انهيار النظام الدلالي للسياسة
لكن يجب النظر إلى هذا الحدث المؤسف أبعد من كونه خبرًا. هذه الحادثة مرآة لفهم حقيقة أكثر مرارة: انهيار النظام الدلالي للسياسة العالمية. حيث سيطر النفاق على الدبلوماسية، والوهم على التحليل، والعنف على العقلانية. لا يُدار عالم اليوم على أساس التوازن والقيمة، بل على أساس الصور والاستعراض والدعاية. لا يتصرف السياسيون من أجل المُثل العليا، بل على أساس خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي، واستطلاعات الرأي، والبرامج الإعلانية. في عالم كهذا، قد يقع السلام في أيدي دعاة الحرب، كما تكون الأكاذيب أحيانًا أكثر مصداقية من الحقيقة.
ليس تصرف نتنياهو مجرد خدعة إعلامية، بالطبع. هذه الخطوة إعلان صريح عن دعم سياسات ترامب و شكرًا له على هذه السياسات؛ محاولة لتوحيد الفصائل اليمينية المتطرفة في إسرائيل والولايات المتحدة، التي لا تعرف حدودًا للعنف والتدخل في سياستها الخارجية. في الواقع، لم تُكتب هذه الرسالة من أجل جائزة نوبل، بل من أجل السياسة الفئوية، لتعزيز جماعات الضغط، ولمواصلة نفس المشروع الذي ترك الشرق الأوسط في لهيب ورماد.
في مواجهة هذه المظاهر الفاضحة، فإن أكثر ما يُلفت الانتباه هو صمت العالم. صمت المؤسسات الدولية، وصمت المثقفين الغربيين، وصمت وسائل الإعلام التي اعتبرت نفسها يومًا ما حارسة للحقيقة. لكن اليوم، يبدو أن للحقيقة ثمنًا، وأن الشرف السياسي أصبح سلعة نادرة. نعيش في عصرٍ يُصبح فيه المجرمون صانعي سلام، ويُتهم الضحايا بالإرهاب. انقلبت المفاهيم، وأصبحت المعايير فارغة. إذا كان سقراط قد شرب كأس الشوكران يومًا "ليسأل عن العدالة"، فإن العدالة اليوم تُقدم في كأس الدبلوماسية الكريستالية في البيت الأبيض، من قِبل أولئك الذين يقصفون المدارس ثم يبتسمون لتلقي جائزة السلام.
لعلّ الآن هو... هل حان الوقت للتساؤل عما إذا كانت جائزة نوبل للسلام نفسها بحاجة إلى إنقاذ؟ ألم يحن الوقت لتعود هذه الجوائز العالمية إلى معناها الأصلي؟ إن السلام، إن أُريد له أن يدوم، يجب أن يكون في أيدي من دفعوا ثمنه. في أيدي الأمهات الفلسطينيات اللواتي فقدن أطفالهن تحت الأنقاض؛ في عيون شعوب لبنان واليمن وسوريا وأفغانستان وإيران؛ وفي قلوب كل من وقع ضحية ألاعيب السياسة اللاأخلاقية للدول المعتدية. وإذا مُنحت جائزةٌ يومًا ما للمجرمين، فلن تكون سلامًا، بل ستكون مجرد وثيقةٍ لإفلاس ضمير الإنسانية.